دعاء عرفة

عن بشر وبشير ابنا غالب الأسديّ، أنّهما قالا: كنا مع الحسين بن عليّ (عليهما السلام) عشيّة عرفة، فخرج (عليه السلام) من فسطاطه متذلّلاً خاشعاً، فجعل يمشي هوناً هوناً، حتّى وقف هو وجماعة من أهل بيته وولده ومواليه في مَيْسَرَةِ الجبل، مستقبل البيت ثم رفع يديه تلقاء وجهه كاستطعام المسكين، ثمّ قال:

بسم الله الرحمن الرحيم

الحَمْدُ للهِ الَّذِي لَيْسَ لِقَضائِهِ دافِعٌ، وَلا لِعَطائِهِ مانِعٌ، وَلا كَصُنْعِهِ صُنْعُ صانِعٍ، وَهُوَ الجَوادُ الواسِعُ، فَطَرَ أَجْناسَ البَدائِعِ1، وَأَتْقَنَ بِحِكْمَتِهِ الصَّنائِعِ، وَلا تَخْفى عَلَيْهِ الطَلائِعِ2، وَلا تَضِيعُ عِنْدَهُ الوَدائِعُ، جازي كُلِّ صانِعٍ، وَرائشُ3 كُلِّ قانِعٍ، وَراحِمُ


113


كُلِّ ضارِعٍ، مُنْزِلُ المَنافِعِ وَالكِتابِ الجامِعِ بِالنُّورِ السَّاطِعِ، وَهُوَ لِلدَّعَواتِ سامِعٌ، وَللْكُرُباتِ دافِعٌ، وَلِلْدَّرَجاتِ رافِعٌ، وَلِلْجَبابِرَةِ قامِعٌ4، فَلا إِلهَ غَيْرُهُ، وَلا شَيَْ يَعْدِلُهُ، وَلَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيٌْ، وَهُوَ السَّمِيعُ البَصِيرُ اللَّطِيفُ الخَبِيرُ، وَهُوَ عَلى كُلِّ شَيٍْ قَدِيرٌ، اللّهُمَّ إِنِّي أَرْغَبُ إِلَيْكَ، وَأَشْهَدُ بِالرُّبُوبِيَّةِ لَكَ مُقِرَّاً، بِأَنَّكَ رَبِّي وَإِلَيْكَ مَرَدِّي. إِبْتَدأتَنِي بِنِعْمَتِكَ قَبْلَ أَنْ أَكُونَ شَيْئاً مَذْكُوراً، وَخَلَقْتَنِي مِنَ التُرابِ، ثُمَّ اسْكَنْتَنِي الأصْلابَ، آمِناً لِرَيْبِ المَنُون5ِ، وَاخْتِلافِ الدُّهُورِ وَالسِّنِينَ، فَلَم أَزَلْ ظاعِنا6ً مِنْ صُلْبِ إِلى رَحِمٍ فِي تَقادُمٍ7 مِنْ الأيَّامِ الماضِيَةِ وَالقُرُونِ الخالِيَةِ، لَمْ تُخْرِجْنِي لِرأْفَتِكَ بِي وَلُطْفِكَ لِي وَإِحْسانِكَ إِلَيَّ فِي دَوْلَةِ أَئِمَّةِ الكُفْرِ الَّذِينَ نَقَضُوا عَهْدَكَ وَكَذَّبُوا رُسُلَكَ، لكِنَّكَ أَخْرَجْتَنِي لِلَّذِي سَبَقَ لِي مِنَ الهُدى الَّذِي لَهُ يَسَّرْتَنِي، وَفِيهِ أَنْشّأْتَنِي، وَمِنْ قَبْلِ ذلِكَ رَؤُفْتَ بِي بِجَمِيلِ صُنْعِكَ وَسَوابِغِ نِعَمِكَ، فَابْتَدَعْتَ خَلْقِي مِنْ مَنِيٍّ يُمْنى وَأَسْكَنْتَنِي فِي ظُلُماتٍ ثَلاثٍ8 بَيْنَ لَحْمٍ وَدَمٍ وَجِلْدٍ لَمْ تُشْهِدْنِي خَلْقِي، وَلَمْ تَجْعَلْ إِلَيَّ شَيْئاً مِنْ أَمْرِي ثُمَّ أَخْرَجْتَنِي لِلَّذِي سَبَقَ لِي مِنَ الهُدى إِلى الدُّنْيا تامّاًَ سَوِيّاً


114


 وَحَفَظْتَنِي فِي المَهْدِ طِفْلاً صَبِيّاً، وَرَزَقْتَنِي مِنَ الغِذاءِ لَبَناً مَرِيّاً9، وَعَطَفْتَ عَلَيَّ قُلُوبَ الحَواضِنِ، وَكَفَّلْتَنِي الاُمَّهاتِ الرَّواحِمَ، وَكَلأتَنِي10 مِنْ طَوارِقِ الجانِّ، وَسَلَّمْتَنِي مِنَ الزِّيادَةِ وَالنُّقْصانِ، فَتَعالَيْتَ يا رَحيمُ يا رَحْمنُ، حَتَّى إِذا اسْتَهْلَلْتُ ناطِقاً بِالكَلامِ، أَتْمَمْتَ عَلَيَّ سَوابِغَ الأنِعْامِ، وَرَبَّيْتَنِي زائِداً فِي كُلِّ عامٍ، حَتَّى إِذا اكْتَمَلَتْ فِطْرَتِي وَاعْتَدَلَتْ مِرَّتِي أَوْجَبْتَ عَلَيَّ حُجَّتَكَ بِأَنْ أَلْهَمْتَنِي مَعْرِفَتَكَ وَرَوَّعْتَنِي بِعَجائِبِ حِكْمَتِكَ، وَأيْقَظْتَنِي لِما ذَرَأْتَ11 فِي سَمائِكَ وَأَرْضِكَ مِنْ بَدائِعِ خَلْقِكَ وَنَبَّهْتَنِي لِشُكْرِكَ وَذِكْرِكَ وَأَوْجَبْتَ عَلَيَّ طاعَتَكَ وَعِبادَتَكَ وَفَهَّمْتَنِي ما جاءتْ بِهِ رُسُلُكَ وَيَسَّرْتَ لِي تَقَبُّلَ مَرْضاتِكَ، وَمَنَنْتَ عَلَيَّ فِي جَمِيعِ ذلِكَ بِعَوْنِكَ وَلُطْفِكَ. ثُمَّ إِذْ خَلَقْتَنِي مِنْ خَيْرِ الثَّرى12، لَمْ تَرْضَ لِي يا إِلهِي نِعْمَةً دُونَ اُخْرى، وَرَزَقْتَنِي مِنْ أَنْواعِ المَعاشِ وَصُنُوفِ الرِّياشِ13 بِمَنِّكَ، العَظِيمِ الأَعْظَمِ عَلَيَّ، وَإِحْسانِكَ القَدِيمِ إِليَّ، حَتَّى إِذا اتْمَمْتَ عَلَيَّ جَمِيعَ النِّعَمِ، وَصَرَفْتَ عَنِّي كُلَّ النِّقَمِ لَمْ يَمْنعْكَ جَهْلِي وَجُرْأَتِي عَلَيْكَ أَنْ دَلَلْتَنِي إِلى ما يُقَرِّبُنِي إِلَيْكَ وَوَفَّقْتَنِي لِما يُزْلِفُنِي14 لَدَيْكَ، فَإِنْ دَعَوْتُكَ أَجَبْتَنِي وَإِنْ سَأَلْتُكَ


115


 أَعْطَيْتَنِي، وَإِنْ أَطَعْتُكَ شَكَرْتَنِي، وَإِنْ شَكَرْتُكَ زِدْتَنِي، كُلُّ ذلِكَ إِكْمالٌ لأنْعُمِكَ عَلَيَّ، وَإِحْسانِكَ إِلَيَّ، فَسُبْحانَكَ سُبْحانَكَ مِنْ مُبْدِيٍ مُعِيدٍ حَمِيدٍ مَجِيدٍ وَتَقَدَّسَتْ أَسْماؤُكَ وَعَظُمَتْ آلاؤُكَ. فَأَيُّ نِعَمِكَ يا إِلهِي أحْصِي عَدَداً وَذِكْراً أَمْ أَيُّ عَطاياكَ أَقُومُ بِها شُكْراً؟

وَهِي يا رَبِّ أَكْثَرُ مِنْ أَنْ يُحْصِيها العادُّونَ أَوْ يَبْلُغَ عِلْماً بِها الحافِظُونَ، ثُمَّ ما صَرَفْتَ وَدَرَأْتَ عَنِّي15، اللّهُمَّ مِنَ الضُّرِّ وَالضَّرَّاءِ أَكْثَرُ مِمَّا ظَهَرَ لِي مِنَ العافِيَةِ وَالسَّرَّاءِ، وَأنا أَشْهَدُ يا إِلهِي بِحَقِيقَةِ إِيْمانِي وَعَقْدِ عَزَماتِ16 يَقِينِي، وَخالِصِ صَرِيحِ تَوْحِيدِي، وَباطِنِ مَكْنُونِ ضَمِيرِي، وَعَلائِقِ مَجارِي17 نُورِ بَصَرِي، وَأَسارِير18ِ صَفْحَةِ جَبِينِي، وَخُرْقٍ مَسارِبِ نَفْسِي وَخَذارِيفِ19 مارِنِ عِرْنيني، وَمَسارِبِ سِماخِ20 سَمْعِي، وَما ضُمَّتْ وَأَطْبَقَتْ عَلَيْهِ شَفَتايَ وَحَرَكاتِ لَفْظِ لِسانِي، وَمَغْرَزِ حَنَكِ21 فَمِي وَفَكّي، وَمَنابِتِ أَضْراسِي، وَمَساغِ مَطْعَمِي22 وَمَشْرَبِي، وَحِمالَةِ اُمِّ رَأْسِي23، وَبُلوعِ


116


فارِغِ حَبَائِلِ24 عُنُقِي، وَما اشْتَمَلَ عَلَيْهِ تامُورُ25 صَدْرِي، وَحَمائِلُ حَبْلِ وَتِينِي26، وَنِياطِ27 حِجابِ قَلْبِي، وَأَفْلاذِ28 حَواشِي كَبِدِي، وَما حَوَتْهُ شَراسِيفُ29 أضْلاعِي وَحِقاقُ30 مَفاصِلِي، وَقَبْضُ عَوامِلِي31، وَأَطْرافِ أَنامِلِي، وَلَحْمِي وَدَمِي وَشَعْرِي وَبَشَرِي وَعَصَبِي وَقَصَبِي وَعِظامِي، وَمُخِّي وَعُرُوقِي وَجَمِيعِ جَوارِحِي، وَما انْتَسَجَ32 عَلى ذلِكَ أَيّامَ رِضاعِي، وَما أَقَلَّتِ الأَرْضُ33 مِنِّي، وَنَوْمِي وَيَقْظَتِي، وَسُكُونِي وَحَرَكاتِ رُكُوعِي وَسُجُودِي، أَنْ لَوْ حاوَلْتُ وَاجْتَهَدْتُ مَدى الأعْصارِ34 وَالأحْقابِ35، لَوْ عُمِّرْتُها أَنْ اُؤَدِّي شُكْرَ وَاحِدَةٍ مِنْ أَنْعُمِكَ، ما اسْتَطَعْتُ ذلِكَ إلّا بِمَنِّكَ المُوجَبِ عَلَيَّ بِهِ شُكْرُكَ أَبَداً جَدِيداً وَثَناءً طارِفاً عَتِيداً 36!


117


 أَجَلْ37، وَلَوْ حَرَصْتُ أَنا وَالعادُّونَ مِنْ أَنامِكَ أَنْ نُحْصِيَ مَدى إِنْعامِكَ سالِفِهِ وَآنِفِهِ ما حَصَرْناهُ عَدَداً وَلا أَحْصَيْناهُ أَمَداً.

هَيْهاتَ أَنَّى ذلِكَ38 وَأَنْتَ المُخْبِرُ فِي كِتابِكَ النَّاطِقِ وَالنَّبَأ الصَّادِقِ: وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَةَ الله لا تُحْصُوها، صَدَقَ كِتابُكَ اللّهُمَّ وَإِنْباؤُكَ، وَبَلَّغَتْ أَنْبِياؤُكَ وَرُسُلُكَ ما أَنْزَلْتَ عَلَيْهِمْ مِنْ وَحْيِكَ، وَشَرَعْتَ لَهُمْ وَبِهِمْ مِنْ دِينِكَ، غَيْرَ أَنِّي يا إِلهِي أَشْهَدُ بِجُهْدِي وَجِدِّي وَمَبْلَغِ طاعَتِي وَوُسْعِي، وَأَقُولُ مُؤْمِناً مُوقِناً: الحَمْدُ للهِ الَّذِي لَمْ يَتَّخِذْ وَلَداً فَيَكُونَ مَوْرُوثاً وَلَمْ يَكُنْ لَهُ شَرِيكٌ فِي مُلْكِهِ فَيُضادَّهُ فِيما ابْتَدَعَ وَلا وَلِيُّ مِنَ الذُّلِّ فَيُرْفِدَهُ فِيما صَنَعَ، فَسُبْحانَهُ سُبْحانَهُ لَوْ كان فِيهما آلِهَةٌ إلّا الله لَفَسَدَتا وَتَفَطَّرَتا!

سُبْحانَ الله الواحِدِ الأحَدِ الصَّمَدِ الَّذِي لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدُ وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفْواً أَحَد، الحَمْدُ للهِ حَمْداً يُعادِلُ حَمْدَ مَلائِكَتِهِ المُقَرَّبِينَ، وَأَنْبِيائِهِ المُرْسَلِينَ، وَصَلّى الله عَلى خِيرَتِهِ مُحَمَّدٍ خاتَمِ النبيّينَ وَآلِهِ الطَيِّبِينَ الطَّاهِرِينَ المُخْلِصِينَ وَسَلَّمَ.

ثُمَّ اندفع فِي المسألة واجتهد فِي الدّعاء وَقال وَعيناه سالتا دموعاً: اللّهُمَّ اجْعَلْنِي أَخْشاكَ كَأَنِّي أَراكَ، وَأسْعِدْنِي بِتَقْواكَ، وَلا تُشْقِنِي بِمَعْصِيَتِكَ، وَخِرْ لِي فِي قَضائِكَ، وَبارِكْ لِي فِي قَدَرِكَ، حَتَّى لا أُحِبَّ تَعْجِيلَ ما أَخَّرْتَ، وَلا تَأْخِيرَ ما عَجَّلْتَ،


118


 اللّهُمَّ اجْعَلْ غِنايَ فِي نَفْسِي، وَاليَّقِينَ فِي قَلْبِي، وَالاِخْلاصَ فِي عَمَلِي، وَالنُّورَ فِي بَصَرِي، وَالبَصِيرَةَ فِي دِينِي، وَمَتِّعْنِي بِجَوارِحِي، وَاجْعَلْ سَمْعِي وَبَصَرِي الوارِثَيْنِ مِنِّي، وَانْصُرْنِي عَلى مَنْ ظَلَمَنِي، وَأَرِنِي فِيهِ ثارِي وَمَآرِبِي39 وَأَقِرَّ بِذلِكَ عَيْنِي، اللّهُمَّ اكْشِفْ كُرْبَتِي، وَاسْتُرْ عَوْرَتِي، وَاغْفِرْ لِي خَطِيئَتِي، وَاخْسَأْْ40 شَيْطانِي، وَفُكَّ رِهانِي41، وَاجْعَلْ لِي يا إِلهِي الدَّرَجَةَ العُلْيا فِي الآخرةِ وَالأولى. اللّهُمَّ لَكَ الحَمْدُ كَما خَلَقْتَنِي، فَجَعَلْتَنِي سَميعاً بَصِيراً، وَلَكَ الحَمْدُ كَما خَلَقْتَنِي، فَجَعَلْتَنِي خَلْقاً سَوِيّاً رَحْمَةً بِي، وَقَدْ كُنْتَ عَنْ خَلْقِي غَنِيّاً بِما بَرَأْتَنِي42، فَعَدَّلْتَ فِطْرَتِي43. رَبِّ بِما أَنْشَأْتَنِي فَأَحْسَنْتَ صُورَتِي، رَبِّ بِما أَحْسَنْتَ إِلَيَّ وَفِي نَفْسِي عافَيْتَنِي، رَبِّ بِما كَلأْتَنِي44 وَوَفَّقْتَنِي، رَبِّ بِما أَنْعَمْتَ عَلَيَّ فَهَدَيْتَنِي، رَبِّ بِما أَوْلَيْتَنِي وَمِنْ كُلِّ خَيْرٍ أَعْطَيْتَنِي، رَبِّ بِما أَعْطَيْتَنِي وَسَقَيْتَنِي، رَبِّ بِما أَغْنَيْتَنِي وَأْقْنَيْتَنِي45، رَبِّ بِما اعَنْتَنِي وَأَعْزَزْتَنِي، رَبِّ بِما أَلْبَسْتَنِي مِنْ سِتْرِكَ الصَّافِي، وَيَسَّرْتَ لِي مِنْ صُنْعِكَ الكافِي، صَلِّ عَلى مُحَمَّدٍ وَآلِ مُحَمَّدٍ وَأَعِنِّي


119


َلى بَوائِقِ الدُّهُور46ِ، وَصُرُوفِ47 اللَّيالِي وَالأيَّامِ، وَنَجِّنِي مِنْ أَهْوالِ الدُّنْيا وَكُرُباتِ الآخرةِ، وَاكْفِنِي شَرَّ ما يَعْمَلُ الظَّالِمُونَ فِي الأَرْضِ.

اللّهُمَّ ما أَخافُ فَاكْفِنِي، وَما أَحْذَرُ فَقِنِي، وَفِي نَفْسِي وَدِينِي فَاحْرُسْنِي، وَفِي سَفَرِي فَاحْفَظْنِي، وَفِي أَهْلِي وَمالِي فَاخْلُفْنِي، وَفِيما رَزَقْتَنِي فَبارِكْ لِي، وَفِي نَفْسِي فَذَلِّلْنِي، وَفِي أَعْيُنِ النّاس فَعَظِّمْنِي، وَمِنْ شَرِّ الجِنِّ وَالاِنْسِ فَسَلِّمْنِي، وَبِذُنُوبِي فَلا تَفْضَحْنِي، وَبِسَرِيرَتِي فَلا تُخْزِني وَبِعَمَلِي فَلا تَبْتَلِنِي، وَنِعَمَكَ فَلا تَسْلُبْنِي، وَإِلى غَيْرِكَ فَلا تَكِلْنِي، إِلهِي إِلى مَنْ تَكِلُنِي إِلى قَرِيبٍ فَيَقْطَعُنِي، أَمْ إِلى بَعِيدٍ فَيَتَجَهَّمُنِي، أَمْ إِلى المُسْتَضْعِفِينَ لِي وَأَنْتَ رَبِّي وَمَلِيكُ أَمْرِي؟

أَشْكُو إِلَيْكَ غُرْبَتِي، وَبُعْدَ دارِي وَهَوانِي عَلى مَنْ مَلَّكْتَهُ أَمْرِي، إِلهِي فَلا تُحْلِلْ عَلَيَّ غَضَبَك، فَإِنْ لَمْ تَكُنْ غَضِبْتَ عَلَيَّ فَلا أُبالِي سُبْحانَكَ غَيْرَ أَنَّ عافِيَتَكَ أَوْسَعُ لِي، فَأَسْأَلُكَ يا رَبِّ بِنُورِ وَجْهِكَ الَّذِي أَشْرَقَتْ لَهُ الأَرْضُ وَالسَّماواتُ وَكُشِفَتْ بِهِ الظُّلُماتُ وَصَلُحَ بِهِ أَمْرُ الأوَّلِينَ وَالآخِرِينَ أَنْ لا تُمِيتَنِي عَلى غَضَبِكَ، وَلا تُنْزِلْ بِي سَخَطَكَ، لَكَ العُتْبى لَكَ العُتْبى حَتَّى تَرْضى قَبْلَ ذلِكَ. لا إِلهَ إلّا أَنْتَ، رَبَّ البَلَدِ الحَرامِ وَالمَشْعَرِ


120


الحَرامِ، وَالبَيْتِ العَتِيقِ الَّذِي أَحْلَلْتَهُ البَرَكَةَ وَجَعَلْتَهُ لِلنَّاسِ أَمْناً، يا مَنْ عَفا عَنْ عَظِيمِ الذُّنُوبِ بِحِلْمِهِ، يا مَنْ أَسْبَغَ النَّعَماءِ بِفَضْلِهِ، يا مَنْ أَعْطى الجَزِيلَ بِكَرَمِهِ، يا عُدَّتِي فِي شِدَّتِي، يا صاحِبِي فِي وَحْدَتِي، يا غِياثِي فِي كُرْبَتِي، يا وَلِيِّي فِي نِعْمَتِي، يا إِلهِي وَإِلهَ آبائِي إِبْراهِيمَ وَإِسْماعِيلَ وَإِسْحاقَ وَيَعْقُوبَ، وَرَبَّ جَبْرئِيلَ وَمِيكائِيلَ وَإِسْرافِيلَ وَرَبَّ مُحَمَّدٍ خاتَمِ النبيّينَ وَآلِهِ المُنْتَجَبِينَ وَمُنْزِلَ التَّوْراةِ وَالإنْجِيلِ وَالزَّبُورِ وَالفُرْقانِ وَمُنَزِّلَ كهيَّعَصَّ وَطهَ وَيَّس وَالحَكِيم. أَنْتَ كَهْفِي حِينَ تُعْيِينِي48 المَذاهِبُ فِي سَعَتِها، وَتَضِيقُ بِيَ الأَرْضُ بِرُحْبِها49، وَلَوْلا رَحْمَتُكَ لَكُنْتُ
مِنَ الهالِكِينَ. وَأَنْتَ مُقِيلُ عَثْرَتِي، وَلَوْلا سَتْرُكَ إِيَّايَ لَكُنْتُ مِنْ المَفْضُوحِينَ، وَأَنْتَ مُؤَيِّدِي بِالنَّصْرِ عَلى أَعْدائِي، وَلْولا نَصْرُكَ إِيَّايَ لَكُنْتُ مِنَ المَغْلُوبِينَ. يا مَنْ خَصَّ نَفْسَهُ بِالسُّمُوِّ وَالرِّفْعَةِ، فَأَوْلِياؤُهُ بِعِزِّهِ يَعْتَزُّونَ، يا مَنْ جَعَلَتْ لَهُ المُلُوكُ نَيْرَ المَذَلَّة50ِ عَلى أَعْناقِهِمْ، فَهُمْ مِنْ سَطَواتِهِ خائِفُونَ. يَعْلَمُ خائِنَةَ الأعْيُنِ وَما تُخْفِي الصُّدُورِ، وَغَيْبَ ما تَأْتِي بِهِ الأزْمِنَةُ وَالدُّهُورِ، يا مَنْ لا يَعْلَمُ كَيْف هُوَ إلّا هُوَ، يا مَنْ لا يَعْلَمُ ما هُوَ إلّا هُوَ، يا مَنْ لا يَعْلَمُهُ إلّا هُوَ، يا مَنْ كَبَسَ الأَرْضَ عَلى الماءِ، وَسَدَّ الهَواءَ بِالسَّماء، يا مَنْ لَهُ أَكْرَمُ الأسَّماء، يا ذا المَعْرُوفِ الَّذِي لا يَنْقَطِعُ أَبَداً،


121


يا مُقَيِّضَ51 الرَّكْبِ لِيُوسُفَ فِي البَلَدِ القَفْر52ِ، وَمُخْرِجَهُ مِنْ الجُبِّ53 وَجاعِلَهُ بَعْدَ العُبُودِيَّةِ مَلِكاً يا رادَّهُ عَلى يَعْقُوبَ بَعْدَ أَنْ ابْيَضَّتْ عَيْناهُ مِنَ الحُزْنُ فَهُوَ كَظِيمٌ. يا كاشِفَ الضُّرِّ وَالبَلْوى عَنْ أَيُّوبَ، وَمُمْسِكَ يَدَيْ إِبْراهِيمَ عَنْ ذَبْحِ ابْنِهِ بَعْدَ كِبَرِ سِنِّهِ وَفَناءِ عُمُرِهِ، يا مَنِ اسْتَجابَ لِزَكَرِيَّا فَوَهَبَ لَهُ يَحْيى وَلَمْ يَدَعْهُ فَرْداً وَحِيداً، يا مَنْ أَخْرَجَ يُونُسَ مِنْ بَطْنِ الحُوتِ، يا مَنْ فَلَقَ البَحْرَ لِبَنِي إِسْرائِيلَ فَأَنْجاهُمْ، وَجَعَلَ فِرْعَوْنَ وَجُنُودَهُ مِنَ المُغْرَقِينَ. يا مَنْ أَرْسَلَ الرِّياحَ مُبَشِّراتٍ بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِهِ، يا مَنْ لَمْ يَعْجَلْ عَلى مِنْ عَصاهُ مِنْ خَلْقِهِ، يا مَنْ اسْتَنْقَذَ السَّحَرَةَ مِنْ بَعْدِ طُولِ الجُحُودِ، وَقَدْ غَدَوا فِي نِعْمَتِهِ يَأْكُلُونَ رِزْقَهُ، وَيَعْبُدُونَ غَيْرَهُ، وَقَدْ حادُّوهُ54 وَنادُّوهُ55 وَكَذَّبُوا رُسُلَهُ.

يا الله يا الله، يا بَدِيءُ يا بَدِيعُ، لا نِدَّ لك، يا دائِماً لا نَفادَ لَكَ، يا حَيّاً حِينَ لا حَيَّ، يا مُحْيِيَ المَوْتى، يا مَنْ هُوَ قائِمٌ عَلى كُلِّ نَفْسٍ بِما كَسَبَتْ، يا مَنْ قَلَّ لَهُ شُكْرِي فَلَمْ يَحْرِمْنِي، وَعَظُمَتْ خَطِيئَتِي فَلَمْ يَفْضَحْنِي، وَرَآنِي عَلى المَعاصِي فَلَمْ يَشْهرْنِي، يا مَنْ حَفِظَنِي فِي صِغَرِي، يا مَنْ رَزَقَنِي فِي كِبَرِي، يا مَنْ أَيادِيهِ عِنْدِي لا تُحْصَى وَنِعَمُهُ لا تُجازى، يا مَنْ عارَضَنِي


122


بِالخَيْرِ وَالإحْسانِ، وَعارَضْتُهُ بِالاِسأةِ وَالعِصْيانِ، يا مَنْ هَدانِي لِلاِيمانِ مِنْ قَبْلِ أَنْ أَعْرِفَ شُكْرَ الاِمْتِنانِ، يا مَنْ دَعَوْتُهُ مَرِيضاً فَشَفانِي، وَعُرْياناً فَكَسانِي، وَجائِعاً فَأَشْبَعَنِي، وَعَطْشاناً فَأَرْوانِي، وَذَلِيلاً فَأَعَزَّنِي، وَجأهلاً فَعَرَّفَنِي، وَوَحِيداً فَكَثَّرَنِي، وَغايِباً فَرَدَّنِي، وَمُقِلاًّ56 فَأَغْنانِي، وَمُنْتَصِراً فَنَصَرَنِي، وَغَنِيّاً فَلَمْ يَسْلُبْنِي، وَأَمْسَكْتُ عَنْ جَمِيعِ ذلِكَ فَابْتَدَأَنِي، فَلَكَ الحَمْدُ وَالشُّكْرُ يا مَنْ أَقالَ عَثْرَتِي، وَنَفَّسَ كُرْبَتِي، وَأَجابَ دَعْوَتِي، وَسَتَرَ عَوْرَتِي، وَغَفَرَ ذُنُوبِي، وَبَلَّغَنِي طَلَبِي وَنَصَرَنِي عَلى عَدُوِّي، وَإِنْ أَعُدَّ نِعَمَكَ وَمِنَنَكَ وَكَرائِمِ مِنَحِكَ لا أُحْصِيها.

يا مَوْلايَ أَنْتَ الَّذِي مَنَنْتَ، أَنْتَ الّذِي أَنْعَمْتَ، أَنْتَ الَّذِي أَحْسَنْتَ، أَنْتَ الَّذِي أَجْمَلْتَ، أَنْتَ الَّذِي أَفْضَلْتَ، أَنْتَ الَّذِي أَكْمَلْتَ، أَنْتَ الَّذِي رَزَقْتَ، أَنْتَ الَّذِي وَفَّقْتَ، أَنْتَ الَّذِي أَعْطَيْتَ، أَنْتَ الَّذِي أَغْنَيْتَ، أَنْتَ الَّذِي أَقْنَيْتَ57، أَنْتَ الَّذِي آوَيْتَ، أَنْتَ الَّذِي كَفَيْتَ، أَنْتَ الَّذِي هَدَيْتَ، أَنْتَ الَّذِي عَصَمْتَ، أَنْتَ الَّذِي سَتَرْتَ، أَنْتَ الَّذِي غَفَرْتَ أَنْتَ الَّذِي أَقَلْتَ، أَنْتَ الَّذِي مَكَّنْتَ، أَنْتَ الَّذِي أَعْزَزْتَ، أَنْتَ الَّذِي أَعَنْتَ، أَنْتَ الَّذِي عَضَدْتَ58، أَنْتَ الَّذِي أَيَّدْتَ، أَنْتَ الَّذِي نَصَرْتَ، أَنْتَ الَّذِي شَفَيْتَ، أَنْتَ الَّذِي عافَيْتَ، أَنْتَ الَّذِي أَكْرَمْتَ. تَبارَكْتَ وَتَعالَيْتَ، فَلَكَ


123


 الحَمْدُ دائِماً وَلَكَ الشُّكْرُ وَاصِباً59 أَبَداً. ثُمَّ أَنا يا إِلهِي المُعْتَرِفُ بِذُنُوبِي فَاغْفِرْها لِي، أَنا الَّذِي أَسَأْتُ، أَنا الَّذِي أَخْطَأْتُ، أَنا الَّذِي هَمَمْتُ، أَنا الَّذِي جَهِلْتُ، أَنا الَّذِي غَفَلْتُ، أَنا الَّذِي سَهَوْتُ، أَنا الَّذِي اعْتَمَدْتُ أَنا الَّذِي تَعَمَّدْتُ، أَنا الَّذِي وَعَدْتُ، أَنا الَّذِي أَخْلَفْتُ، أَنا الَّذِي نَكَثْتُ، أَنا الَّذِي أَقْرَرْتُ، أَنا الِّذِي اعْتَرَفْتُ بِنِعْمَتِكَ عَلَيَّ وَعِنْدِي، وَأَبُوُء60 بِذُنُوبِي فَاغْفِرْها لِي، يا مَنْ لا تَضُرُّهُ ذُنُوبُ عِبادِهِ وَهُوَ الغَنِيُّ عَنْ طاعَتِهِمْ، وَالمُوَفِّقُ مَنْ عَمِلَ صالِحا مِنْهُمْ بِمَعُونَتِهِ وَرَحْمَتِهِ.

فَلَكَ الحَمْدُ إِلهِي وَسَيِّدِي أَمَرْتَنِي فَعَصَيْتُكَ، وَنَهَيْتَنِي فَارْتَكَبْتُ نَهْيَكَ، فَأَصْبَحْتُ لا ذا بَراءَة61ٍ لِي فَأَعْتَذِرُ وَلا ذا قُوَّةٍ فَأَنْتَصِرُ فَبِأَيِّ شَيٍْ أَنْتَصِرُ فَبِأَيِّ شَيٍْ أَسْتَقْبِلُكَ يا مَوْلايَ أَبِسَمْعِي أَمْ بِبَصَرِي أَمْ بِلِسانِي أَمْ بِيَدِي أَمْ بِرِجْلِي؟ أَلَيْسَ كُلُّها نِعَمَكَ عِنْدِي وَبِكُلِّها عَصَيْتُكَ يا مَوْلايَ؟ فَلَكَ الحُجَّةُ وَالسَّبِيلُ عَلَيَّ، يا مَنْ سَتَرَنِي مِنَ الآباءِ وَالاُمَّهاتِ أَنْ يَزْجُرُونِي، وَمِنَ العَشائِرِ وَالإِخْوانِ أَنْ يُعَيِّرُونِي، وَمِنَ السَّلاطِينِ أَنْ يُعاقِبُونِي، وَلَوْ اطَّلَعُوا يا مَوْلايَ عَلى ما اطَّلَعْتَ عَلَيْهِ مِنِّي إِذاً ما أَنْظَرُونِي وَلَرَفَضُونِي وَقَطَعُونِي، فَها أَنا ذا يا إِلهِي بَيْنَ يَدَيْكَ يا سَيِّدِي، خاضِعٌ ذَلِيلٌ، حَصِيرٌ62


124


 فَقِيرٌ، لا ذو بَراءةٍ فَأَعْتَذِرُ، وَلا ذو قُوَّةٍ، فَأَنْتَصِرُ وَلا حُجَّةٍ فَاحْتَجُّ بِها، وَلا قائِلٌ لَمْ اجْتَرِحْ63 وَلَمْ أَعْمَلْ سُوءاً، وَما عَسى الجُحُودُ وَلَوْ جَحَدْتُ يا مَوْلايَ يَنْفَعُنِي، كَيْفَ وَأَنَّى ذلِكَ وَجَوارِحِي كُلُّها شاهِدَةٌ عَلَيَّ بِما قَدْ عَمِلْتُ؟ وَعَلِمْتُ يَقِيناً غَيْرَ ذِي شَكٍّ أَنَّكَ سائِلِي مِنْ عَظائِمِ الاُمُورِ، وَأَنَّكَ الحَكَمُ العَدْلُ الَّذِي لا تَجُورُ وَعَدْلُكَ مُهْلِكِي وَمِنْ كُلِّ عَدْلِكَ مَهْرَبِي. فَإِنْ تُعَذِّبْنِي يا إِلهِي، فَبِذُنُوبِي بَعْدَ حُجَّتِكَ عَلَيَّ، وَإِنْ تَعْفُ عَنِّي فَبِحِلْمِكَ وَجُودِكَ وَكَرَمِكَ، لا إِلهَ إلّا أَنْتَ سُبْحانَكَ إِنِّي كُنْتُ مِنَ الظَّالِمِينَ، لا إِلهَ إلّا أَنْتَ سُبْحانَكَ إِنِّي كُنْتُ مِنْ المُسْتَغْفِرِينَ، لا إِلهَ إلّا أَنْتَ سُبْحانَكَ، إِنِّي كُنْتُ مِنَ المُوَحِّدِينَ لا إِلهَ إلّا أَنْتَ سُبْحانَكَ إِنِّي كُنْتُ مِنَ الخائِفِينَ، لا إِلهَ إلّا أَنْتَ سُبْحانَكَ إِنِّي كُنْتُ مِنَ الوَجِلِينَ64، لا إِلهَ إلّا أَنْتَ سُبْحانَكَ إِنِّي كُنْتُ مِنَ الرَّاجِينَ، لا إِلهَ إلّا أَنْتَ سُبْحانَكَ إِنِّي كُنْتُ مِنَ الرَّاغِبِينَ، لا إِلهَ إلّا أَنْتَ سُبْحانَكَ إِنِّي كُنْتُ مِنَ المُهَلِّلِينَ65، لا إِلهَ إلّا أَنْتَ سُبْحانَكَ إِنِّي كُنْتُ مِنَ السَّائِلِينَ، لا إِلهَ إلّا أَنْتَ سُبْحانَكَ إِنِّي كُنْتُ مِنَ المُسَبِّحِينَ لا إِلهَ إلّا أَنْتَ سُبْحانَكَ إِنِّي كُنْتُ مِنَ المُكَبِّرِينَ، لا إِلهَ إلّا أَنْتَ سُبْحانَكَ رَبِّي وَرَبُّ آبائِيَ الأوّلِينَ.

اللّهُمَّ هذا ثَنائِي عَلَيْكَ مُمَجِّداً، وَإِخْلاصِي لِذِكْرِكَ مُوَحِّداً،


125


 وَإِقْرارِي بآلائِكَ مُعَدِّداً، وَإِنْ كُنْتُ مُقِرّاً إِنِّي لَمْ أُحْصِها لِكَثْرَتِها وَسُبُوغِها66 وَتَظاهُرِها وَتَقادُمِها إِلى حادِثٍ ما لَمْ تَزَلْ تَتَعَهَّدُنِي بِهِ مَعَها مُنْذُ خَلَقْتَنِي، وَبَرَأْتَنِي مِنْ أَوَّلِ العُمرِ مِنَ الاِغْناءِ مِنَ الفَقْرِ، وَكَشْفِ الضُّرِّ، وَتَسْبِيبِ اليُسْرِ، وَدَفْعِ العُسْرِ، وَتَفْرِيجِ الكَرْبِ وَالعافِيَةِ فِي البَدَنِ، وَالسَّلامَةِ فِي الدِّينِ، وَلَوْ رَفَدَنِي عَلى قَدْرِ نِعْمَتِكَ جَمِيعُ العالَمِينَ مِنَ الأوَّلِينَ وَالآخِرِينَ ما قَدَرْتُ وَلا هُمْ عَلى ذلِكَ، تَقَدَّسْتَ وَتَعالَيْتَ مِنْ رَبٍّ عَظِيمٍ رَحِيمٍ لا تُحْصى آلاؤُكَ، وَلا يُبْلَغُ ثَناؤُكَ، وَلا تُكافئ نَعْماؤكَ، صَلِّ عَلى مُحَمَّدٍ وَآلِ مُحَمَّدٍ، وَأَتْمِمْ عَلْينا نِعَمَكَ وَأَسْعِدْنا بِطاعَتِكَ. سُبْحانَكَ لا إِلهَ إلّا أَنْتَ، اللّهُمَّ إِنَّكَ تُجِيبُ المُضْطَرَّ وَتَكْشِفُ السُّوءَ، وَتُغِيثُ المَكْرُوبَ، وَتُشْفِي السَّقِيمَ، وَتُغْنِي الفَقِيرَ، وَتَجْبُرُ الكَسِيرَ، وَتَرْحَمُ الصَّغِيرَ، وَتُعِينُ الكَبِيرَ، وَلَيْسَ دُونَكَ ظَهِيرٌ67 وَلا فَوْقَكَ قَدِيرٌ، وَأَنْتَ العَلِيُّ الكَبِيرُ. يا مُطْلِقَ المُكَبَّلِ الأسِيرِ، يا رازِقَ الطِّفْلِ الصَّغِيرِ، يا عِصْمَةَ الخائِفِ المُسْتَجِيرِ، يا مَنْ لا شَرِيكَ لَهُ وَلا وَزِيرَ، صَلِّ عَلى مُحَمَّدٍ وَآلِ مُحَمَّدٍ وَأَعْطِنِي فِي هذِهِ العَشِيَّةِ أَفْضَلَ ما أَعْطَيْتَ وَأَنَلْت68 أَحَداً مِنَ العالَمِينَ مِنْ عِبادِكَ مِنْ نِعْمَةٍ تُولِيها وَآلاءٍ تُجَدِّدُها، وَبَلِيَّةٍ تَصْرِفُها، وَكُرْبَةٍ تَكْشِفُها، وَدَعْوَةٍ


126


تَسْمَعُها، وَحَسَنَةٍ تَتَقَبَّلُها. وَسَيِّئَةٍ تَتَغَمَّدُها69، إِنَّكَ لَطِيفٌ بِما تَشاءُ خَبِيرٌ وَعَلى كُلِّ شَيٍْ قَدِيرٌ.

اللّهُمَّ إِنَّكَ أَقْرَبُ مَنْ دُعِيَ، وَأَسْرَعُ مَنْ أَجابَ، وَأَكْرَمُ مَنْ عَفى، وَأَوْسَعُ مَنْ أَعْطى، وَأَسْمَعُ مَنْ سُئِلْ، يا رَحْمنَ الدُّنْيا وَالآخرةِ وَرَحِيمَهُما، لَيْسَ كَمِثْلِكَ مَسْؤولٌ وَلا سِواكَ مَأْمُولٌ. دَعَوْتُكَ فَأَجَبْتَنِي، وَسَأَلْتُكَ فَأَعْطَيْتَنِي، وَرَغِبْتُ إِلَيْكَ فَرَحِمْتَنِي، وَوَثِقْت بِكَ فَنَجَّيْتَنِي، وَفَزِعْتُ إِلَيْكَ فَكَفَيْتَنِي. اللّهُمَّ فَصَلِّ عَلى مُحَمَّدٍ وَآلِ مُحَمَّدٍ، عَبْدِكَ وَرَسُولِكَ وَنَبِيِّكَ وَعَلى آلِهِ الطَّيِّبِينَ الطَّاهِرِينَ أَجْمَعِينَ، وَتَمِّمْ لَنا نَعْماءَكَ وَهَنِّئْنا عَطاءَكَ وَاكْتُبْنا لَكَ شاكِرِينَ وَلآلائِكَ ذاكِرِينَ آمِينَ آمِينَ رَبَّ العالَمِينَ.

اللّهُمَّ يا مَنْ مَلَكَ فَقَدَرَ، وَقَدَرَ فَقَهَرَ، وَعُصِيَ فَسَتَرْ، وَاسْتُغْفَرَ فَغَفَرَ، يا غايَةَ الطَّالِبِينَ، وَمُنْتَهى أَمَلِ الرَّاجِينَ، يا مَنْ أَحاطَ بِكُلِّ شَيٍْ عِلْماً، وَوَسِعَ المُسْتَقِيلينَ رَأْفَةً وَرَحْمَةً وَحِلْماً. اللّهُمَّ إِنَّا نَتَوَجَّهُ إِلَيْكَ فِي هذِهِ العَشِيَّةِ الَّتِي شَرَّفْتَها وَعَظَّمْتَها بِمُحَمَّدٍ نَبِيِّكَ وَرَسُولِكَ وَخِيَرَتِكَ مِنْ خَلْقِكَ وَأَمِينِكَ، عَلى وَحْيِكَ البَشِيرِ النَّذِيرِ السِّراجِ المُنِيرِ، الَّذِي أَنْعَمْتَ بِهِ عَلى المُسْلِمِينَ، وَجَعَلْتَهُ رَحْمَةً لِلْعالَمِينَ.

اللّهُمَّ فَصَلِّ عَلى مُحَمَّدٍ وَآلِ مُحَمَّدٍ كَما مُحَمَّدٌ أَهْلٌ لِذلِكَ مِنْكَ، يا عَظِيمُ، فَصَلِّ عَلَيْهِ وَعَلى آلِهِ المُنْتَجَبِينَ الطَّيِّبِينَ الطَّاهِرِينَ


127


 أَجْمَعِينَ، وَتَغَمَّدْنا بِعَفْوِكَ عَنّا، فَإِلَيْكَ عَجَّتِ70 الأصْواتُ بِصُنُوفِ اللُّغاتِ، فَاجْعَلْ لَنا اللّهُمَّ فِي هذِهِ العَشِيَّةِ نَِصيباً مِنْ كُلِّ خَيْرٍ تَقْسِمُهُ بَيْنَ عِبادِكَ، وَنُوراً تَهْدِي بِهِ، وَرَحْمَةً تَنْشُرُها، وَبَرَكَةً تُنْزِلُها، وَعافِيَةً تُجَلِّلُها، وَرِزْقاً تَبْسُطُهُ، يا أَرْحَمَ الرَّاحِمِينَ. اللّهُمَّ أَقْلِبْنا فِي هذا الوَقْتِ مُنْجِحِينَ مُفْلِحِينَ مَبْرُورِينَ غانِمِينَ، وَلا تَجْعَلْنا مِنَ القانِطِينَ، وَلا تُخْلِنا مِنْ رَحْمَتِكَ، وَلا تَحْرِمْنا ما نُؤَمِّلُهُ مِنْ فَضْلِكَ، وَلا تَجْعَلْنا مِنْ رَحْمَتِكَ مَحْرُومِينَ، وَلا لِفَضْلِ ما نُؤَمِّلُهُ مِنْ عَطائِكَ قانِطِينَ، وَلا تَرُدَّنا خائِبِينَ، وَلا مِنْ بابِكَ مَطْرُودِينَ.

يا أَجْوَدَ الأجْوَدِينَ، وَيا أَكْرَمَ الأكْرَمِينَ، إِلَيْكَ أَقْبَلْنا مُوقِنِينَ، وَلِبَيْتِكَ الحَرامِ آمِّينَ قاصِدِينَ، فَأَعِنّا عَلى مَناسِكِنا، وَكَمِّلْ لَنا حَجَّنا، وَاعْفُ عَنّا وَعافِنا فَقَدْ مَدَدْنا إِلَيْكَ أَيْدِينا، فَهِيَ بِذِلَّةِ الاِعْتِرافِ مَوْسُومَةٌ. اللّهُمَّ فَأَعْطِنا فِي هذِهِ العَشِيَّةِ ما سَأَلْناكَ، وَاكْفِنا ما اسْتَكْفَيْناكَ، فَلا كافِيَ لِنا سِواكَ، وَلا رَبَّ لَنا، نافِذٌ فِينا حُكْمُكَ مُحِيطٌ بِنا عِلْمُكَ، عَدْلٌ فِينا قَضاؤُكَ، اقْضِ لَنا الخَيْرَ وَاجْعَلْنا مِنْ أَهْلِ الخَيْرِ. اللّهُمَّ أَوْجِبْ لَنا بِجُودِكَ عَظِيمَ الأجْرِ وَكَرِيمَ الذُّخْرِ، وَدَوامَ اليُسْرِ، وَاغْفِرْ لَنا ذُنُوبَنا أَجْمَعِينَ، وَلا تُهْلِكْنا مَعَ الهالِكِينَ، وَلا تَصْرِفْ عَنّا رَأْفَتَكَ وَرَحْمَتَكَ يا أَرْحَمَ الرَّاحِمِينَ.


128


اللّهُمَّ اجْعَلْنا فِي هذا الوَقْتِ مِمَّنْ سَأَلَكَ فَأَعْطَيْتَهُ، وَشَكَرَكَ فَزِدْتَهُ، وَثابَ إِلَيْكَ فَقَبِلْتَهُ، وَتَنَصَّلَ71 إِلَيْكَ مِنْ ذُنُوبِهُ كُلِّها فَغَفَرْتَها لَهُ، يا ذا الجَلالِ وَالاِكْرامِ، اللّهُمَّ وَنَقِّنا وَسَدِّدْنا وَاقْبَلْ تَضَرُّعَنا يا خَيْرَ مَنْ سُئِلْ، وَيا أَرْحَمَ مَنْ اسْتُرْحِمَ، يا مَنْ لا يَخفى عَلَيْهِ إِغْماضُ الجُفُونِ، وَلا لَحْظُ العُيُون72ِ، وَلا ما اسْتَقَرَّ فِي المَكْنُونِ، وَلا ما انْطَوَتْ عَلَيْهِ مُضْمَراتُ القُلُوبِ، أَلا كُلُّ ذلِكَ قَدْ أَحْصاهُ عِلْمُكَ وَوَسِعَهُ حِلْمُكَ؟

سُبْحانَكَ وَتَعالَيْتَ عَمّا يَقُولُ الظَّالِمُونَ عُلُواً كَبِيراً، تُسَبِّحُ لَكَ السَّماواتُ السَّبْعُ وَالأَرْضونَ، وَمَنْ فِيهِنَّ، وَإِنْ مِنْ شَيٍْ إلّا يُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ. فَلَكَ الحَمْدُ وَالمَجْدُ وَعُلُوُّ الجَدِّ، يا ذا الجَلالِ وَالاِكْرامِ، وَالفَضْلِ وَالإنْعامِ، وَالأيْادِي الجِسامِ، وَأَنْتَ الجَوادُ الكَرِيمُ الرَّؤُوفُ الرَّحِيمُ. اللّهُمَّ أَوْسِعْ عَلَيَّ مِنْ رِزْقِكَ الحَلالِ، وَعافِنِي فِي بَدَنِي وَدِينِي، وَآمِنْ خَوْفِي، وَاعْتِقْ رَقَبَتِي مِنَ النَّارِ، اللّهُمَّ لا تمْكُرْ بِي وَلا تَسْتَدْرِجْنِي73، وَلا تَخْدَعْنِي74، وَادْرَأْ75 عَنِّي شَرَّ فَسَقَةِ الجِنِّ وَالإنْسِ.

ثم رفع رأسه وبصره إلى السماء وعيناه ماطرتان كأنّهما مزادتان، وقال بصوتٍ عالٍ:


129


 يا أَسْمَع السَّامِعِينَ، يا أَبْصَر النَّاظِرِينَ، وَيا أَسْرَعَ الحاسِبِينَ، وَيا أَرْحَمَ الرَّاحِمِينَ، صَلِّ عَلى مُحَمَّدٍ وَآلِ مُحَمَّدٍ السَّادَةِ المَيامِينَ، وَأَسأَلُكَ اللّهُمَّ حاجَتِي الَّتِي إِنْ أَعْطَيْتَنِيها لَمْ يَضُرَّنِي ما مَنَعْتَنِي، وَإِنْ مَنَعْتَنِيها لَمْ يَنْفَعْنِي ما أَعْطَيْتَنِي، أَسأَلُكَ فَكاكَ رَقَبَتِي مِنَ النَّارِ، لا إِلهَ إلّا أَنْتَ وَحْدَكَ لا شَرِيكَ لَكَ، لَكَ المُلْكُ وَلَكَ الحَمْدُ، وَأَنْتَ عَلى كُلِّ شَيٍْ قَدِيرٌ يا رَبِّ يا رَبِّ.

وكان يكرر قوله: يا رَبِّ، وشغل من حضر ممن كان حوله عن الدعاء لأنفسهم وأقبلوا على الاستماع له والتأمين على دعائه ثم علت أصواتهم بالبكاء معه وغربت الشمس وأفاض النّاس معه.

أقول: إلى هنا تم دعاء الإمام الحسين عليه السلام في يوم عرفة على ما أورده الكفعمي في كتاب (البلد الأمين) وقد تبعه المجلسي في كتاب (زاد المعاد) ولكن زاد السيّد ابن طاووس رضي الله عنه في (الاقبال) بعد: يا رَبِّ يا رَبِّ يا رَبِّ هذه الزيادة: إِلهِي أَنا الفَقِيرُ فِي غِنايَ فَكَيْفَ لا أَكُونُ فَقِيراً فِي فَقْرِي إِلهِي أَنا الجأهل فِي عِلْمِي فَكَيْفَ لا أَكُونُ جَهُولاً فِي جَهْلِي؟ إِلهِي إِنَّ اخْتِلافَ تَدْبِيرِكَ وَسُرْعَةَ طَواءِ مَقادِيرِكَ76 مَنَعاً عِبادَكَ العارِفِينَ بِكَ عَنِ السُّكُونِ إِلى عَطاءٍ وَاليَّأْسِ مِنْكَ فِي بَلاءٍ، إِلهِي مِنِّي ما يَلِيقُ بِلُؤْمِي وَمِنْكَ ما يَلِيقُ بِكَرَمِكَ، إِلهِي وَصَفْتَ نَفْسَكَ


130


بِاللُّطْفِ وَالرَّأْفَةِ لِي قَبْلَ وُجُودِ ضَعْفِي أَفَتَمْنَعُنِي مِنْهُما بَعْدَ وَجُودِ ضَعْفِي؟ إِلهِي إِنْ ظَهَرَتِ المَحاسِنُ مِنِّي فَبِفَضْلِكَ وَلَكَ المِنَّةُ عَلَيَّ وَإِنْ ظَهَرَتِ المَساوِيُ مِنِّي فَبِعَدْلِكَ وَلَكَ الحُجَّةُ عَلَيَّ، إِلهِي كَيْفَ تَكِلُنِي77 وَقَدْ تَكَفَّلْتَ لِي وَكَيْفَ أُضامُ78 وَأَنْتَ النَّاصِرُ لِي، أَمْ كَيْفَ أَخِيبُ وَأَنْتَ الحَفِيّ79ُ بِي؟ ها أَنا أَتَوَسَّلُ إِلَيْكَ بِفَقْرِي إِلَيْكَ وَكَيْفَ أَتَوَسَّلُ إِلَيْكَ بِما هُوَ مَحالٌ أَنْ يَصِلَ إِلَيْكَ، أَمْ كَيْفَ أَشْكُو إِلَيْكَ حالِي وَهُوَ لا يَخْفى عَلَيْكَ، أَمْ كَيْفَ أُتَرْجِمُ بِمَقالِي وَهُوَ مِنْكَ بَرَزٌ إِلَيْكَ80، أَمْ كَيْفَ تُخَيِّبْ آمالِي وَهِي قَدْ وَفَدَتْ إِلَيْكَ، أَمْ كَيْفَ لا تُحْسِنُ أَحْوالِي وَبِكَ قامَتْ؟ إِلهِي ما أَلْطَفَكَ بِي مَعَ عَظِيمِ جَهْلِي وَما أَرْحَمَكَ بِي مَعَ قَبِيحِ فِعْلِي! إِلهِي ما أَقْرَبَكَ مِنِّي وَأَبْعَدَنِي عَنْكَ وَما أَرْأَفَكَ بِي! فَما الَّذِي يَحْجُبُنِي عَنْكَ؟ إِلهِي عَلِمْتُ بِاخْتِلافِ الآثارِ وَتَنَقُّلاتِ الأطْوارِ أَنَّ مُرادَكَ مِنِّي أَنْ تَتَعَرَّفَ إِلَيَّ فِي كُلِّ شَيٍْ حَتَّى لا أَجْهَلَكَ فِي شَيٍْ، إِلهِي كُلَّما أَخْرَسَنِي لُؤْمِي أَنْطَقَنِي كَرَمُكَ وَكُلَّما آيَسَتْنِي أَوْصافِي أَطْمَعَتْني مِنَنُكَ، إِلهِي مَنْ كانَتْ مَحاسِنُهُ مَسَاوِيَ فَكَيْفَ لا تَكُونُ مَساوِؤُهُ مَساوِيَ، وَمَنْ كانَتْ حَقائِقُهُ دَعاوي فَكَيْفَ لا تَكُونُ دَعاواهُ دَعاوي، إِلهِي حُكْمُكَ النَّافِذُ وَمَشِيئَتُكَ القاهِرَةِ لَمْ


131


يَتْرُكا لِذِي مَقالٍ مَقالاً وَلا لِذِي حالٍ حالاً، إِلهِي كَمْ مِنْ طاعَةٍ بنَيْتُها وَحالَةٍ شَيَّدْتُها هَدَمَ اعْتِمادِي عَلَيْها عَدْلُكَ بَلْ أَقالَنِي مِنْها فَضْلُكَ، إِلهِي إِنَّكَ تَعْلَمُ أَنِّي وَإِنْ لَمْ تَدُمِ الطَّاعَةُ مِنِّي فِعْلاً جَزْماً فَقَدْ دامَتْ مَحَبَّةً وَعَزْماً، إِلهِي كَيْفَ أَعْزِمُ وَأَنْتَ القاهِرُ وَكَيْفَ لا أَعْزِمُ وَأَنْتَ الأمِرُ؟ إِلهِي تَرَدُّدي فِي الآثارِ يُوجِبُ بُعْدَ المَزارِ فاجْمَعْنِي عَلَيْكَ بِخِدْمَةٍ تُوصِلُنِي إِلَيْكَ، كَيْفَ يُسْتَدَلُّ عَلَيْكَ بِما هُوَ فِي وُجُودِهِ مُفْتَقِرٌ إِلَيْكَ أَيَكُونُ لِمِنَ الظُّهُورِ ما لَيْسَ لَكَ حَتَّى يَكُونَ هُوَ المُظْهِرَ لَكَ؟ مَتى غبْتَ حَتَّى تَحْتاجَ إِلى دَلِيلٍ يَدُلُّ عَلَيْكَ وَمَتى بَعُدْتَ حَتَّى تَكُونَ الآثارُ هِيَ الَّتِي تُوصِلُ إِلَيْكَ؟ عَمِيَتْ عَيْنٌ لا تَراكَ عَلَيْها رَقِيباً وَخَسِرَتْ صَفْقَةُ عَبْدٍ لَمْ تَجْعَلَ لَهُ مِنْ حُبِّكَ نَصِيباً، إِلهِي أَمَرْتَ بِالرُّجُوعِ إِلى الآثارِ فَارْجِعْنِي إِلَيْكَ بِكِسْوَةِ الأنْوار81ِ وَهِدايَةِ الاِسْتِبْصارِ حَتَّى أَرْجِعَ إِلَيْكَ مِنْها كَما دَخَلْتُ إِلَيْكَ مِنْها مَصُونَ السِّرِّ عَنْ النَّظَرِ إِلَيْها وَمَرْفُوعَ الهِمَّةِ عَنِ الاِعْتِمادِ عَلَيْها إِنَّكَ عَلى كُلِّ شَيٍْ قَدِيرٌ. إِلهِي هذا ذُلِّي ظاهِرٌ بَيْنَ يَدَيْكَ وَهذا حالِي لا يَخْفى عَلَيْكَ مِنْكَ أَطْلُبُ الوُصُولَ إِلَيْكَ وَبِكَ أَسْتَدِلُّ عَلَيْكَ فَاهْدِنِي بِنُورِكَ إِلَيْكَ وَأَقِمْنِي بِصِدْقِ العُبُودِيَّةِ بَيْنَ يَدَيْكَ، إِلهِي عَلِّمْنِي مِنْ عِلْمِكَ المَخْزُونِ وَصُنِّي بِسِتْرِكَ المَصُونِ إِلهِي حَقِّقْنِي بِحَقائِقِ أَهْلِ القُرْبِ وَاسْلُكَ بِي مَسْلَكَ أَهْلِ الجَذْبِ، إِلهِي أَغْنِنِي بِتَدْبِيرِكَ لِي عَنْ تَدْبِيرِي وَبِاخْتِيارِكَ


132


 عَنْ اخْتِيارِي وَأوْقِفْنِي عَلى مَراكِزِ اضْطِرارِي، إِلهِي أَخْرِجْنِي مِنْ ذُلِّ نَفْسِي وَطَهِّرْنِي مِنْ شَكِّي وَشِرْكِي قَبْلَ حُلُولِ رَمْسِي82، بِكَ أَنْتَصِرُ فَانْصُرْنِي وَعَلَيْكَ أَتَوَكَّلُ فَلا تَكِلْنِي وَإِيَّاكَ أَسْأَلُ فَلا تُخَيِّبْنِي وَفِي فَضْلِكَ أَرْغَبُ فَلا تَحْرِمْنِي وَبِجَنابِكَ أَنْتَسِبُ فَلا تُبْعِدْنِي وَبِبابِكَ أَقِفُ فَلا تَطْرُدْنِي، إِلهِي تَقَدَّسَ رِضاكَ أَنْ يَكُونَ لَهُ عِلَّةٌ مِنْكَ فَكَيْفَ يَكُونُ لَهُ عِلَّةٌ مِنِّي؟ إِلهِي أَنْتَ الغَنِيُّ بِذاتِكَ أَنْ يَصِلَ إِلَيْكَ النَّفْعُ مِنْكَ فَكَيْفَ لا تَكُونُ غَنِيّاً عَنِّي؟ إِلهِي إِنَّ القَضاء وَالقَدَرَ يُمَنِّيِني وَإِنَّ الهَوى بِوَثائِقِ الشَّهْوَةِ أَسَرَنِي فَكُنْ أَنْتَ النَّصِيرَ لِي حَتَّى تَنْصُرَنِي وَتُبَصِّرَنِي وَأَغْنِنِي بِفَضْلِكَ حَتَّى اسْتَغْنِي بِكَ عَنْ طَلَبِي، أَنْتَ الَّذِي أَشْرَقْتَ الأنْوارَ فِي قُلُوبِ أَوْلِيائِكَ حَتَّى عَرَفُوكَ وَوَحَّدُوكَ وَأَنْتَ الَّذِي أَزَلْتَ الأغْيارَ عَنْ قُلُوبِ أَحِبَّائِكَ حَتَّى لَمْ يُحِبُّوا سِواكَ وَلَمْ يَلْجَأَوا إِلى غَيْرِكَ أَنْتَ المُوْنِسُ لَهُمْ حَيْثُ أَوْحَشَتْهُمُ العَوالِمُ وَأَنْتَ الَّذِي هَدَيْتَهُمْ حَيْثُ اسْتَبانَتْ لَهُمْ المَعالِمُ، ماذا وَجَدَ مَنْ فَقَدَكَ وَما الَّذِي فَقَدَ مَنْ وَجَدَكَ؟!

لَقَدْ خابَ مَنْ رَضِيَ دُونَكَ بَدَلاً وَلَقَدْ خَسِرَ مَنْ بَغى عَنْكَ مُتَحَوَّلاً، كَيْفَ يُرْجى سِواكَ وَأَنْتَ ما قَطَعْتَ الإحْسانَ وَكَيْفَ يُطْلَبُ مِنْ غَيْرِكَ وَأَنْتَ ما بَدَّلْتَ عادَةَ الاِمْتِنانِ؟ يا مَنْ أَذاقَ


133


 أَحِبَّأَهُ حَلاوَةَ المُؤانَسَةِ فَقامُوا بَيْنَ يَدَيْهِ مُتَمَلِّقِينَ83 وَيا مَنْ أَلْبَسَ أَوْلِيائهُ مَلابِسَ هَيْبَتِهِ فَقامُوا بَيْنَ يَدَيْهِ مُسْتَغْفِرِينَ، أَنْتَ الذَّاكِرُ قَبْلَ الذَّاكِرِينَ وَأَنْتَ البادِيُ بِالإحْسانِ قَبْلَ تَوَجُّهِ العابِدِينَ وَأَنْتَ الجَوادُ بِالعَطاءِ قَبْلَ طَلَبِ الطَّالِبِينَ وَأَنْتَ الوَهَّابُ ثُمَّ لِما وَهَبْتَ لَنا مِنَ المُسْتَقْرِضِينَ، إِلهِي اطْلُبْنِي بِرَحْمَتِكَ حَتَّى أَصِلَ إِلَيْكَ وَاجْذُبْنِي بِمَنِّكَ حَتَّى أُقْبِلَ عَلَيْكَ، إِلهِي إِنَّ رَجائِي لا يَنْقَطِعُ عَنْكَ وَإِنْ عَصَيْتُكَ كَما أَنَّ خَوْفِي لا يُزايِلُنِي84 وَإِنْ أَطَعْتُكَ فَقَدْ دَفَعَتْنِي العَوالِمُ إِلَيْكَ وَقَدْ أَوْقَعَنِي عِلْمِي بِكَرَمِكَ عَلَيْكَ، إِلهِي كَيْفَ أَخِيبُ وَأَنْتَ أَمَلِي أَمْ كَيْفَ اُهانُ وَعَلَيْكَ مُتَّكَلِي، إِلهِي كَيْفَ أسْتَعِزُّ وَفِي الذِّلَّةِ أَرْكَزْتَنِي85 أَمْ كَيْفَ لا أَسْتَعِزُّ وَإِلَيْكَ نَسَبْتَنِي؟ إِلهِي كَيْفَ لا أَفْتَقِرُ وَأَنْتَ الَّذِي فِي الفُقَراءِ أَقَمْتَنِي أَمْ كَيفَ أَفْتَقِرُ وَأَنْتَ الَّذِي بِجُودِكَ أَغْنَيْتَنِي وَأَنْتَ الَّذِي لا إِلهَ تَعَرَّفْتَ لِكُلِّ شَيٍْ فَما جَهِلَكَ شَيٌْ وَأَنْتَ الَّذِي تَعَرَّفْتَ إِلَيَّ فِي كُلِّ شَيٍْ فَرَأَيْتُكَ ظاهِراً فِي كُلِّ شَيٍْ وَأَنْتَ الظَّاهِرُ لِكُلِّ شَيٍْ.

يا مَنْ اسْتَوى بِرَحْمانِيَّتِه فَصارَ العَرْشُ غَيْباً فِي ذاتِهِ مَحَقْتَ الآثارَ بِالآثارِ وَمَحَوْتَ الأغْيارَ بِمُحِيطاتِ أَفْلاكِ الأنْوارِ، يا مَنْ احْتَجَبَ فِي سُرادِقاتِ عَرْشِهِ عَنْ أَنْ تُدْرِكَهُ الأبْصارُ يا مَنْ تَجَلّى بِكَمالِ بَهائِهِ فَتَحَقَّقَتْ عَظَمَتُهُ الاِسْتِواءِ، كَيْفَ تَخْفى وَأَنْتَ


134


 الظَّاهِرُ أَمْ كَيْفَ تَغِيبُ وَأَنْتَ الرَّقِيبُ الحاضِرُ؟ إِنَّكَ عَلى كُلِّ شَيٍْ قَدِيرٌ وَالحَمْدُ للهِ وَحْدَهُ.

وعلى أيّ حال فقد وردت أدعية وأعمال كثيرة في هذا اليوم لمن وفّق فيه لحضور عرفات، وأفضل أعمال هذا اليوم الشريف الدعاء وهو يوم قد امتاز بالدعاء امتيازاً وينبغي الإكثار فيه من الدعاء للإخوان المؤمنين أحياءً وأمواتاً، والرواية الواردة في شأن عبد الله بن جندبM في الموقف بعرفات ودعائه لإخوانه المؤمنين مشهورة، ورواية زيد النرسيّ في شأن الثقة الجليل معاوية بن وهب في الموقف ودعائه في حقّ إخوانه في الآفاق واحداً واحداً، وروايته عن الصادق عليه السلام في فضل هذا العمل ممّا ينبغي الاطلاع عليه والتدبّر فيه.

والرجاء الواثق من إخواني المؤمنين أن يجعلوا هؤلاء العظماء قدوة يقتدون بهم فيؤثرون على أنفسهم إخوانهم المؤمنين بالدعاء ويعدّونني في زمرتهم وأنا العاصي الذي سوّدت وجهي الذنوب فلا ينسونني من الدعاء حيّاً وميتاً. وقل في آخر نهار عرفة:
يا رَبِّ إِنَّ ذُنُوبِي لا تَضُرُّكَ وَإِنَّ مَغْفِرَتَكَ لِي لا تَنْقُصُكَ فَأَعْطِنِي ما لا يَنْقُصُكَ وَاغْفِرْ لِي ما لا يَضُرُّكَ.

وَقل أيضاً: اللّهُمَّ لا تَحْرِمْنِي خَيْرَ ما عِنْدَكَ لِشَرِّ ما عِنْدِي فَإِنْ أَنْتَ لَمْ تَرْحَمْنِي بِتَعَبِي وَنَصَبِي فَلا تَحْرِمْنِي أَجْرَ المُصابِ عَلى مُصِيبَتِهِ.
 


135


أقول: قال السيّد ابن طاووس في خلال أدعية يوم عرفة: إذا دنا غروب الشمس فقل: بِسْمِ الله وَبِالله وَسُبْحانَ الله وَالحَمْدُ للهِ... الدعاء وهذا هو دعاء العشرات السالف. فجدير أن لا يترك في آخر نهار عرفة قراءة دعاء العشرات المسنون في كلّ صباح ومساء، وهذه الأذكار التي أوردها الكفعميّ هي الأذكار الواردة في آخر دعاء العشرات كما أورده السيّد


وآخر دعوانا ان الحمد لله ربّ العالمين


136


هوامش

1- البدائع: الخلائق.
2- الطلائع: أي المغيبات، وطلعت عن القوم، أي غبت عنهم.
3- رائش كل قانع: أي مصلح أحوال كل راضٍ بما قسم له، ورشت فلاناً أصلحت حاله، والقانع هو الراضي بما قسم له، أو السائل.
4- قامع: قاهر.
5- ريب المنون: حوادث الدهر.
6- ظاعناً: متنقلاً.
7- تقادم: مرور وتقدُّم الأيام.
8- ظلمات ثلاث: هي ظلمة المشيمة وظلمة الرحم وظلمة البطن ورد الإشارة إليها بقوله تعالى: (يخلقكم في بطون أمهاتكم خلقاً من بعد خلق في ظلمات ثلاث)( الزمر: ).
9- مرياً: حلواً طيباً.
10- كلأتني: حفظتني.
11- ذرأت: خلقت.
12- خير الثرى: خير تراب الأرض.
13- الرياش: المنافع.
14- يُزلفنيك يقرّبني.
15- درأت عني: منعت.
16- عقد عزمات يقيني: أي بعزمي وإرادتي المعقودة والقوية بيقيني.
17- علائق مجاري: هي ما يتعلَّق به نور البصر.
18- وأسارير صفحة جبيني: هي خطوط الجبهة.
19- خذاريف مارن عرنين: الخذاريف هي القطع.
20- مسارب صماخ: أنئي طرفه السماخ بالسين والصاد خرق الأذن.
21- مغرز حنك: موضع غرز، أي أثبت، والحنك ما تحت الذقن.
22- مساغ مطعمي: ساغ الشراب سهل شربه.
23- حِمَالة أُمّ رأسي: علاقته، وحمَّالة السيف علاقته التي يتقلَّدها الإنسان، وأُمّ الرأس الجلدة التي تجمع الدماغ.
24- بلوغ فارع حبائل عنقي: في بعض النسخ: فارغ حبائل عنقي، والبلوغ ما ينزل منه الطعام والشراب إلى الجوف.
25- تامور: دم الحياة والتامور النَّفس.
26- حمائل حبل وتيني: أي علائقه والحمالة العلاقة وقد مرَّ ذكرها، وحبل الوتين عرق، وكذا حبل الوريد.
27- نياط: يُقال لمعلَّق القلب من الوتين كبد الميَّط وسمِّي نياطاًلتعلُّقه بالقلب.
28- أفلاذ: هي قطع الكبد، والفلذ كبد البعير والفلذة القطعة.
29- شراسيف: أطراف الأضلاع المشرفة على البطن، ويُقال هو غضروف متعلق بكل ضلع.
30- حِقاق: جمع حقَّة أو الحق وهو ما تحوّق واستدار.
31- قبض عواملي: ضمّ أرجلي إلى بعض.
32- وما انتسج: أن نسج على جوارحي وعروقي ومخِّي، والانتساج هنا استعارة لتداخل العروق والأعصاب بعضها في بعض.
33- وما أقلت الأرض: أي حملت.
34- مدى الأعصار: مدى الدَّهر.
35- الأحقاب: الدَّهر والتكرار للتأكيد.
36- طارفاً عتيداً: أي حديثاً حاضراً، وأطرفت الشيء اشتريته حديثاً، والعتيد المهيَّأ الحاضر.
37- أجل: أي نعم.
38- أنَّى ذلك: أي كيف ذلك.
39- مآربي: حوائجي.
40- أخسأ: أي أبعده.
41- فكّ رهاني: استعارة لمعنى خلّصني من التبعات والسَّيِّئات.
42- برأتني: خلقتني.
43- عدَّلت فطرتي: أي سوَّيت وحسَّنت خلقي.
44- كلأتني: حفظتني.
45- أقيتني: أعطيتني.
46- بوائق الدهور: مصائب الدَّهر.
47- صروف: حوادث.
48- تعييني: تتعبني.
49- برحبها: أي بوسعها.
50- نير المذلَّة: عَلَم المذلَّة.
51- مقيِّض: مسخِّر.
52- القفر: الصحراء.
53- الجب: البئر.
54- حادّون: أي خالفوه.
55- نادوه: جعلوا له نداً أي مثلاً.
56- مقلاً: فقيراً.
57- أقنيت: أعطيت الرزق.
58- عضدت: ساعدت.
59- واصباً: أبداً دائماً.
60- أبوء: أقرُّ وأعترف.
61- لا ذا براءةٍ: أي لم يعد لي عذر.
62- حصير: تعب.
63- أجترح: أقترف وأرتكب.
64- الوجلين: الخائفين.
65- المهللين: التهليل قولك “لا إله إلّا الله”.
66- سبوغها: تماميتها.
67- ظهير: معين.
68- أنلت: أهديت وأعطيت.
69- تتغمَّدها: تسترها.
70- عجَّت: ارتفعت.
71- تنصَّل: تبرَّأز
72- لحظ العيون: النظر الثاقب والدقيق للعيون.
73- ولا تستدرجني: أي لا تأخذني بذنوبي بالتدريج.
74- ولا تخدعني: أي لا تدعني أتوهم رضاك وأنت ساخط عليَّ.
75- ادرأ: ادفع.
76- طواء مقاديرك: تبديل قضائك.
77- تكلُني: تفوض أمري إلى غيرك.
78- أُضام: أُظلم.
79- الحفي: المبالغة في الإكرام.
80- برز إليك: ظاهر لديك.
81- كسوة الأنوار: ثوب الهداية.
82- حلول رمسي: حلول أجلي.
83- متملِّقين: متودِّدين.
84- لا يزايلني: لا يفارقني.
85- أركزتني: ثبَّتني.