رجوع الى القائمة

الحجّ في القرآن

 

إِنَّ أَوَّلَ بَيْت وُضِعَ لِلنَّاسِ لَلَّذِي بِبَكَّةَ مُبَارَكاً

﴿إِنَّ أَوَّلَ بَيْت وُضِعَ لِلنَّاسِ لَلَّذِي بِبَكَّةَ مُبَارَكاً الآيتان96-97من سورة آل عمران

﴿إِنَّ أَوَّلَ بَيْت وُضِعَ لِلنَّاسِ لَلَّذِي بِبَكَّةَ مُبَارَكاً وَهُدىً لِّلْعَـالَمِينَ *فِيهِ ءَايَـاتُ بَيِّنَـاتٌ مَّقَامُ إِبْرَاهِيمَ وَمَن دَخَلَهُ كَانَ ءَامِناً وَللهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيهِ سَبِيلاً وَمَن كَفَرَ فَإِنَّ اللهَ غَنِيٌّ عَنِ الْعَـالَمِينَ

أول بيت وضع للناس:

لقد أنكرت اليهود على النبي صلى الله عليه وآله وسلم أمرين كما أسلفنا.
وقد رد القرآن على الأمر الأول في الآيات الثلاث المتقدمة، وها هو يرد على الأمر الثاني، وهو: إنكارهم على النبي اتخاذه الكعبة قبلة، وتفضيله لها على "بيت المقدس" بينما كانوا يفضلونه على الكعبة.
يقول سبحانه: ﴿إِنَّ أَوَّلَ بَيْت وُضِعَ لِلنَّاسِ لَلَّذِي بِبَكَّةَ مُبَارَكاً فلا عجب إذن أن تكون الكعبّة قبلة للمسلمين، فهي أول مركز للتوحيد، وأقدم معبد بني على الأرض ليعبد فيه الله سبحانه ويوحد، بل لم يسبقه أي معبد آخر قبله، إنه أول بيت وضع للناس ولأجل خير المجتمع الإنساني في نقطة من الأرض محفوفة بالبركات، غنية بالخيرات، وضع ليكون مجتمع الناس، وملتقاهم.

إن المصادر الإسلامية والتاريخية تحدثنا بأن الكعبة تأسست على يدي "آدم" عليه السلام ثمّ تهدمت بسبب الطوفان الذي وقع في عهد النبي "نوح" ثمّ جدد بناءها النبي العظيم "إبراهيم الخليل" عليه السلام فهي إذن عريقة عراقة التاريخ البشري.

ولاشكّ أن إختيار أعرق بيت اُسس للتوحيد من أجل أن يكون قبلة للمسلمين، أولى وأفضل من إختيار أية نقطة أُخرى وأي مكان آخر.

هذا وممّا يجدر الإنتباه إليه هو أن "الكعبة" والتي تسمى في تسمية أُخرى بـ"بيت الله" وصفت في هذه الآية بأنها "بيت للناس"، وهذا التعبير يكشف عن حقيقة هامة وهي: أن كلّ ما يكون باسم الله ويكون له، يجب أن يكون فى خدمة الناس من عباده، وأن كلّ ما يكون لخدمة الناس وخير العباد فهو لله سبحانه.

كما تتضح- ضمن ما نستفيده من هذه الآية- قيمة الأسبقية في مجال العلاقات بين الخلق والخالق، ولذلك نجد القرآن يشير- في هذه الآية- إلى أسبقية الكعبة على جميع الأماكن الأُخرى، وإلى تاريخها الطويل الضارب في أعماق الزمن، معتبراً ذلك أول وأهم ما تتسم به الكعبة من الفضائل والمزايا، ومن هنا يتضح أيضاً علّة ما للحجر الأسود من الحرمة، ويتبين جواب مايحوم حوله من سؤال مفاده: ما قيمة قطعة من الحجر ولماذا يندفع ويتدافع لإستلامه ملايين الناس كلّ عام، ويتسابقون- في عناء بالغ- إليه حتّى أن إستلامه يعد من المستحبات المؤكّدة في مناسك الحجّ وبرامجه؟

إن تاريخ هذا الحجر يكشف عن ميزة خاصة في هذا الحجر لا نجدها في أي حجر آخر غيره في هذا العالم، وهي أن هذا الحجر أسبق شيء استخدم كمادة إنشائية في أقدم بيت شيد لعبادة الله، وتقديسه، وتوحيده، فإننا نعلم بأن جميع المعابد حتّى الكعبة قد فقدت موادها الإنشائية في كلّ عملية إنهدام وتجديد، عدا هذه القطعة من الصخر التي بقيت منذ آلاف السنين، واستخدمت في بناء هذه البنية المعظمة على طول التاريخ منذ تأسيسها وإلى الآن.

ولا شكّ أن لهذه الإستمرارية، وتلك الأسبقية في طريق الله وفي خدمة الناس قيمة وأهمية من شأنها أن تكسب الأشياء والأشخاص ميزة لا يمكن تجاهلها.

كلّ هذا مضافاً إلى أن هذه الصخرة ليست إلاَّ تاريخ صامت لأجيال كثيرة من المؤمنين في الأعصر المختلفة، فهي تحيي ذكرى إستلام الأنبياء العظام وعباد الله البررة لها، وعبادتهم، وتضرعهم إلى الله في جوارها عبر آلاف السنين ومئات من القرون والأحقاب.

على أن ثمّة أمراً آخر ينبغي الإنتباه إليه وهو: أن الآية المبحوثة هنا تصرح بأن الكعبة هي أول بيت وضع للناس، ومن المعلوم أنه وضع لغرض العبادة فهو أول بيت وضع للعبادة إذن، وهو أمر لايمنع من أن يكون قد شيدت في الأرض قبل الكعبة بيوت للسكن.

وهذا التعبير رد واضح على كلّ أولئك الذين يدعون أن النبي إبراهيم عليه السلامهو أول من أسس الكعبة المشرفة، ويعتبرون بناءها على يدي آدم عليه السلام من قبيل الأساطير، في حين أن من المسلم وجود بيوت للعبادة في العالم قبل إبراهيم عليه السلامكان يتعبد فيها من سبقه من الأنبياء مثل نوح عليه السلام فكيف تكون الكعبة التي هي أول بيت وضع للعبادة في العالم قد أسست على يدي إبراهيم عليه السلام؟

ما هو المراد من "بكّة"؟

"بكة" مأخوذة أصلاً من "البك" وهو الزحم، وبكه أي زحمه، وتباك الناس أي ازدحموا، وإنما يقال للكعبة أو الأرض التي عليها تلك البنية المعظمة بكة لإزدحام الناس هناك، ولا يستبعد أن هذه التسمية أطلقت عليها بعد أن اتخذت صفة المعبد رسمياً لا قبل ذلك.

وفي رواية عن أبي عبدالله الصادق عليه السلام قال: "موضع البيت بكة، والقرية مكة".
وقد إحتمل بعض المفسّرين أيضاً أن تكون "بكة" هي "مكة" أبدل ميمها باء، نظير "لازب" و "لازم" اللتين تعنيان شيئاً واحداً في لغة العرب.

وقد ذكر في علة تسمية "الكعبة" وموضعها ببكة وجه آخر أيضاً هو أنها سميت "بكة" لأنها تبك أعناق الجبابرة، وتحطم غرورهم ونخوتهم، لأن البك هو دق العنق، فعند الكعبة تتساقط وتزول كلّ الفوارق المصطنعة، ويعود المتكبرون والمغرورون كبقية الناس، عليهم أن يخضعوا لله، ويتضرعوا إليه شأنهم شأن الآخرين، وبهذا يتحطم غرورهم.

بحث تاريخي توسيع المسجد الحرام:

منذ العهد النبوي أخذ عدد المسلمين في الإزدياد، وعلى أثر ذلك كان يتزايد عدد الحجاج والوافدين إلى البيت الحرام، ولهذا كان المسجد الحرام يتعرض للتوسعة المستمرة على أيدي الخلفاء في العصور المختلفة، فقد جاء في تفسير العيّاشي أن أبا جعفر (المنصور) طلب أن يشتري من أهل مكة بيوتهم ليزيدها في المسجد، فأبوا فأرغبهم، فامتنعوا فضاق بذلك، فأتى أبا عبدالله (الصادق) عليه السلام فقال له: إني سألت هؤلاء شيئاً من منازلهم، وأفنيتهم لنزيد في المسجد، وقد منعوني ذلك فقد غمني غماً شديداً، فقال أبو عبدالله عليه السلام: أيغمك ذلك وحجتك عليهم فيه ظاهرة؟ فقال: وبما أحتج عليهم؟ فقال: بكتاب الله، فقال: في أي موضع؟ فقال: قول الله عزّوجلّ: ﴿إِنَّ أَوَّلَ بَيْت وُضِعَ لِلنَّاسِ لَلَّذِي بِبَكَّةَ مُبَارَكاً  قد أخبرك الله أن أول بيت وضع للناس هو الذي ببكة، فإن كانوا هم تولوا قبل البيت فلهم أفنيتهم، وإن كان البيت قبلهم فله فناؤه، فدعاهم أبو جعفر (المنصور) فاحتج عليهم بهذا فقالوا له أصنع ما أحببت.

وقد جاء في ذلك التفسير أيضاً أن المهدي (العباسي) لما بنى في المسجد الحرام بقيت دار احتج إليها في تربيع المسجد، فطلبها من أربابها فامتنعوا فسأل عن ذلك الفقهاء فكلّ قال له: إنه لا ينبغي أن يدخل شيئاً في المسجد الحرام غصباً، فقال له علي بن يقطين: يا أميرالمؤمنين لو أنك كتبت إلى موسى بن جعفر عليه السلام لأخبرك بوجه الأمر في ذلك، فكتب إلى والي المدينة أن يسئل موسى بن جعفرعليه السلام عن دار أردنا أن ندخلها في المسجد الحرام فامتنع علينا صاحبها فكيف المخرج من ذلك؟ فقال: ذلك لأبي الحسن عليه السلام: فقال أبو الحسن عليه السلام: ولابدّ من الجواب في هذا؟ فقال له: الأمر لابدّ منه، فقال له: اكتب "بسم الله الرحمن الرحيم إن كانت الكعبة هي النازلة بالناس فالناس أولى بفنائها، وإن كان الناس هم النازلون بفناء الكعبة فالكعبة أولى بفنائها" فلما أتى الكتاب إلى المهدي أخذ الكتاب فقبله (لفرحه الشديد)، ثمّ أمر بهدم الدار فأتى أهل الدار أبا الحسن عليه السلام فسألوه أن يكتب لهم إلى المهدي كتاباً في ثمن دورهم فكتب إليه أن ارضخ لهم شيئاً فارضاهم.

إن في هاتين الروايتين استدلالاً لطيفاً يتفق تماماً مع المقاييس والموازين القانونية المعمول بها أيضاً، فإن الإستدلال يقول, ان لمعبد تقصده الجماهير كالكعبة، قد بني يوم بني على أرض لا أحد فيها، الحق والأولوية في تلك الأرض بقدر حاجته وحيث إن الحاجة يوم اُسس لم تكن تدعو إلى أكثر من تلك المساحة التي أقيم عليها أول مرّة كان للناس أن يسكنوا في حريم الكعبة، أما الآن وقد اشتدت الحاجة إلى مساحة أوسع كما كانت عليه لتسع الحجيج، فإن للكعبة الحقّ في أن تستخدم أولويتها بالأرض.

مزايا الكعبة وفضائلها:

لقد ذكرت في هاتين الآيتين- مضافاً إلى الميزتين اللتين مرّ شرحهما- أربع مزايا اُخرى هي:

1- مباركاً:

"المبارك" يعني كثير الخير والبركة، وإنما كانت الكعبة المعظمة مباركة لأنها تعتبر بحق واحدة من أكثر نقاط الأرض بركة وخيراً، سواء الخير المادي، أو المعنوي.
وأما البركات المعنوية التي تتحلى بها هذه الأرض وهذه المنطقة من إجتماع الحجيج فيها، وما ينجم عن ذلك من حركة وتفاعل ووحدة، وما يصحبه من جاذبية ربانية تحيي الأنفس والقلوب وخاصة في موسم الحج فمما لا يخفى على أحد.

ولو أن المسلمين لم يقصروا إهتمامهم- في موسم الحج- على الجانب الصوري لهذه الفريضة بل أحيوا روحها، والتفتوا إلى فلسفتها، لاتضحت ـحينذاكـ البركات المعنوية، وتجلت للعيان أكثر فأكثر.

هذا من الناحية المعنوية.

وأما من الناحية المادية فإن هذه المدينة رغم أنها اُقيمت في أرض قاحلة لا ماء فيها ولا عشب، ولا صلاحية فيها للزراعة والرعي بقيت على طول التاريخ واحدة من أكثر المدن عمراناً وحركة، وكانت دائماً من المناطق المؤهلة- خير تأهيل- للحياة، بل وللتجارة أيضاً.

2- هدى للعالمين:
أجل، إن الكعبة هدى للعالمين فهي تجتذب الملايين من الناس الذين يقطعون إليها البحار والوهاد، ويقصدونها من كلّ فج عميق ليجتمعوا في هذا الملتقى العبادي العظيم وهم بذلك يقيمون هذه الفريضة فريضة الحجّ التي لم تزل تؤدي بجلال عظيم منذ عهد الخليل عليه السلام.

ولقد كانت هذه البنية معظمة أبداً حتّى من قبل العرب الجاهليين، فهم كانوا يحجون إليها وإن مزجوا مناسك الحجّ ببعض خرافاتهم وعقائدهم الباطلة، إلاَّ أنهم ظلوا أوفياء لهذه المناسك على أنها دين إبراهيم، وقد كان لهذه المناسك والمراسم الناقصة، والخليطة أحياناً بالخرافات الجاهلية، أثرها في سلوكهم، حيث كانوا يرتدعون بسببها عن بعض المفاسد بعض الوقت، وهكذا كانت الكعبة سبباً للهداية حتّى للوثنيين... إن لهذا البيت من الجواذب المعنوية ما لا يستطيع أي أحد أن يقاومها ويصمد أمام تأثيرها الأخّاذ.

3- فيه آيات بينات مقام إبراهيم:

إن في هذا البيت معالم واضحة وعلائم ساطعة لعبادة الله وتوحيده، وفي تلك النقطة المباركة من الآثار المعنوية ما يبهر العيون ويأخذ بمجامع القلوب.
وإن بقاء هذه الآثار والمعالم رغم كيد الكائدين وإفساد المفسدين الذين كانوا يسعون إلى إزالتها ومحوها لَمن تلك الآيات التي يتحدث عنها القرآن في هذا الكلام العلوي.

فها هي آثار جليلة من إبراهيم عليه السلام لا تزال باقية عند هذا البيت مثل: زمزم والصفا والمروة، والركن، والحطيم والحجر الأسود، وحجر إسماعيل الذي يعتبر كلّ واحد منها تجسيداً حيّاً لتاريخ طويل، وذكريات عظيمة خالدة.

ولقد خصّ "مقام إبراهيم" بالذكر من بين كلّ هذه الآثار والآيات لأنه المحل الذي كان قد وقف فيه الخليل عليه السلام لبناء الكعبة، أو لإتيان مناسك الحجّ، أو لإطلاق الدعوة العامّة التي وجهها إلى البشرية كافة، والأذان بهم ليحجوا هذا البيت، ويلتقوا في هذا الملتقى العبادي التوحيدي العظيم.

وعلى كلّ حال فإن هذا المقام لَمن أهم الآيات التي مر ذكرها، وأنها لَمن أوضح الدلائل وأقوى البراهين على ما شهدته هذه النقطة من العالم من التضحيات والذكريات، والإجتماعات والحوادث، البالغة الأهمية.

يبقى أن نعرف أن ثمة خلافاً بين المفسّرين في أن المراد بمقام إبراهيم هل هو خصوص النقطة التي توجد فيها الصخرة التي لا تزال تحمل أثر قدمه الشريف، أو أنه الحرم المكي، أو أنة جميع المواقف التي ترتبط بمناسك الحجّ، ولكن في الرواية المنقولة عن الإمام الصادق عليه السلام في كتاب الكافي إشارة إلى الإحتمال الأول.

4- ومن دخله كان آمناً:

لقد طلب إبراهيم عليه السلام من ربه بعد الإنتهاء من بناء الكعبة، أن يجعل بلد مكة آمناً إذ قال ﴿رَبِّ اجْعَلْ هَذَا الْبَلَدَ آمِنًا، فاستجاب الله له، وجعل مكة بلداً آمناً، ففيه أمن للنفوس والأرواح، وفيه أمن للجموع البشرية التي تفد إليه وتستلهم المعنويات السامية منه، وفيه أمن من جهة القوانين الدينية، فإن الأمن في هذا البلد قد بلغ من الإهتمام به واحترامه أن منع فيه القتال منعاً باتاً، وأكيداً.

وقد جعلت الكعبة بالذات مأمناً وملجأ في الإسلام لا يجوز التعرض لمن لجأ إليها أبداً، وهو أمر يشمل الحيوانات أيضاً إذ يجب أن تكون في أمان من الأذى والمزاحمة إذا هي التجأت إلى هذه النقطة من الأرض.

فإذا التجأ إنسان إلى الكعبة لم يجز التعرض له حتّى لو كان قاتلاً جانياً، بيد أنه حتّى لا تستغل حرمة هذا البيت وقدسيتها الخاصّة، وحتّى لا تضيع حقوق المظلومين سمح الإسلام بالتضييق في المطعم والمشرب على الجناة أو القتلة اللاجئين إليه ليضطروا إلى مغادرته ثمّ ينالوا جزاءهم العادل.

وبعد أن استعرض القرآن الكريم فضائل هذا البيت وعدد مزاياه، أمر الناس بأن يحجوا إليه- دون استثناء- وعبر عن ذلك بلفظ مشعر بأن مثل هذا الحجّ هو في الحقيقة دين لله على الناس، فيتوجب عليهم أن يؤدوه ويفرغوا ذممهم منه إذ قال ﴿وَللهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ .

وتعني لفظة "الحجّ" أصلاً القصد، ولهذا سميت الجادة بالمحجة (على وزن مودة) لأنها توصل سالكها إلى المقصد، كما أن لهذا السبب نفسه سمي الدليل بـ"الحجة" لأنه يوضح المقصود.
أما وجه تسمية هذه الزيارة وهذه المناسك الخاصة بالحجّ فلأن قاصد الحجّ إنّما يخرج وهو "يقصد زيارة بيت الله" ولهذا أضيفت لفظة الحجّ إلى البيت فقال تعالى ﴿حِجُّ الْبَيْتِ.

ثم إننا قد أشرنا سابقاً إلى أن مراسم الحج هذه قد سنت واُسست منذ عهد إبراهيم عليه السلام ثمّ استمرت حتّى العهد الجاهلي حيث كان العرب الجاهليون يمارسونها ويؤدونها، ولكنها شرعت في الإسلام في صورة أَكمل، وكيفية خالية عن الخرافات التي لصقت بها من العهد الجاهلي( 8) ولكن المستفاد من الخطبة القاصعة في نهج البلاغة وبعض الأحاديث والروايات أن فريضة الحج شرعت أول مرّة في زمن آدم عليه السلام إلاَّ أن اتخاذها الصفة الرسمية يرتبط- في الأغلب- بزمن الخليل عليه السلام.

إن الحجّ يجب على كلّ إنسان مستطيع، في العمر مرّة واحدة، ولا يستفاد من الآية المبحوثة هنا أكثر من ذلك، لأن الحكم فيها مطلق، وهو يحصل بالإمتثال مرّة واحدة.

إن الشرط الوحيد الذي ذكرته الآية الحاضرة لوجوب الحجّ واستقراره هو "الاستطاعة" المعبر عنها بقوله سبحانه ﴿مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيهِ سَبِيلاً .
نعم، قد فسرت الاستطاعة في الأحاديث الإسلامية والكتب الفقهية بـ "الزاد والراحلة (أي الإمكانية المالية لنفقات سفر الحجّ ذهاباً وإياباً) والقدرة الجسدية والتمكن من الإنفاق على نفسه وعائلته بعد العودة من الحجّ" والحقّ أن جميع هذه

الأُمور موجودة في الآية، إذ لفظة "استطاع" التي تعني القدرة والإمكانية تشمل كلّ هذه المعاني و الجهات.
ثمّ أنه يستفاد من هذه الآية أن هذا القانون- مثل بقية القوانين الإسلامية- لايختصّ بالمسلمين، فعلى الجميع أن يقوموا بفريضة الحجّ مسلمين وغير مسلمين، وتؤَيد ذلك القاعدة المعروفة: "الكفّار مكلفون بالفروع كما أنهم مكلفون بالاُصول".

وإن كانت صحّة هذه المناسك وأمثالها من العبادات مشروطة بقبولهم للإسلام واعتناقهم إياه، ثمّ أدائها بعد ذلك، ولكن لابدّ أن يعلم بأن عدم قبولهم للإسلام لا يسقط عنهم التكليف، ولا يحررهم من هذه المسؤولية.

وما قلناه في هذه الآية في هذا المجال جار في أمثالها أيضاً.
هذا وقد بحثنا باسهاب حول أهمية الحجّ وفلسفته وآثاره الفردية والإجتماعية عند الحديث عن الآيات 196 إلى 203 من سورة البقرة.

أهمية الحجّ

وللتأكيد على أهمية الحجّ قال سبحانه في ذيل الآية الحاضرة ﴿وَمَن كَفَرَ فَإِنَّ الله غَنِيٌّ عَنِ الْعَالَمِينَ  أي أن الذين يتجاهلون هذا النداء، ويتنكرون لهذه الفريضة، ويخالفونها لا يضرون بذلك إلاَّ أنفسهم لأن الله غني عن العالمين، فلا يصيبه شيء بسبب اعراضهم ونكرانهم وتركهم لهذه الفريضة.

إن لفظة "كفر" تعني في الأصل الستر والإخفاء وأما في المصطلح الديني فتعطي معنى أوسع، فهي تعني كلّ مخالفة للحقّ وكل جحد وعصيان سواء في الاُصول والإعتقاد، أو في الفروع والعمل، فلا تدلّ كثرة استعمالها في الجحود الإعتقادي على إنحصار معناه في ذلك، ولهذا استعملت في "ترك الحجّ".

ولذلك فسّر الكفر في هذه الآية عن الإمام الصادق عليه السلام بترك الحجّ.
وبعبارة اُخرى أن للكفر والإبتعاد عن الحق- تماماً مثل الإيمان والتقرب إلى الحقّ- مراحل ودرجات، ولكلّ واحدة من هذه المراحل والدرجات أحكام خاصة بها، وفي ضوء هذه الحقيقة يتضح الحال بالنسبة لجميع الموارد التي استعملت فيها لفظة الكفر والإيمان في الكتاب العزيز.

فإذا وجدنا القرآن يستعمل وصف الكفر في شأن آكل الربا (كما في الآية 275 من سورة البقرة) وكذا في شأن السحرة (كما في الآية 102 من نفس السورة) ويعبر عنهما بالكافر، كان المراد هو ما ذكرناه، أي أن الربا والسحر إبتعاد عن الحقّ في مرحلة العمل.

وعلى كلّ حال فإنه يستفاد من هذه الآية أمران:
الأوّل: الأهمية الفائقة لفريضة الحجّ، إلى درجة ان القرآن عبر عن تركها بالكفر.

ويؤيد ذلك ما رواه الصدوق في كتاب "من لا يحضره الفقيه" من أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال لعلي عليه السلام:
"يا علي إن تارك الحجّ وهو مستطيع كافر يقول الله تبارك وتعالى: ﴿وَللهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيهِ سَبِيلاً وَمَن كَفَرَ فَإِنَّ اللهَ غَنِيٌّ عَنِ الْعَـالَمِينَ, يا علي, من سوف الحجّ حتّى يموت بعثه الله يوم القيامة يهودياً، أو نصرانياً".

الثاني: إن هذه الفريضة الإلهية المهمة- مثل بقية الفرائض والأحكام الدينية الأُخرى- شرعت لصلاح الناس، وفرضت لفرض تربيتهم، وإصلاح أمرهم وبالهم أنفسهم فلا يعود شيء منها إلى الله سبحانه أبداً، فهو الغني عنهم جميعاً1.


1- تفسير الأمثل في كتاب الله المنزل/ اية الله مكارم الشيرازي.