وَإِذْ يَرْفَعُ إِبْرَاهِيمُ الْقَوَاعِدَ مِنَ الْبَيْتِ
﴿وَإِذْ
يَرْفَعُ إِبْرَاهِيمُ الْقَوَاعِدَ مِنَ الْبَيْتِ وَإِسْمَاعِيلُ رَبَّنَا
تَقَبَّلْ مِنَّا إِنَّكَ ...﴾
اللغة:
الرفع والإعلاء والإصعاد نظائر ونقيض الرفع الوضع ونقيض الإصعاد الإنزال يقال رفع
يرفع رفعا وارتفع الشيء نفسه والمرفوع من عدو الفرس دون الحضر وفوق الموضوع يقال
ارفع من دابتك والرفع نقيض الخفض في كل شيء والرفعة نقيض الذلة والقواعد والأساس
والأركان نظائر وواحد القواعد قاعدة وأصله في اللغة الثبوت والاستقرار فمن ذلك
القاعدة من الجبل وهي أصله وقاعدة البناء أساسه الذي بني عليه وامرأة قاعدة إذا أتت
عليها سنون لم تتزوج وإذا لم تحمل المرأة أو النخلة قيل قد قعدت فهي قاعدة وجمعها
قواعد وتأويله أنها قد ثبتت على ترك الحمل وإذا قعدت عن الحيض فهي قاعدة بغيرها
لأنه لا فعل لها في قعودها عن الحيض وقعدت المرأة إذا أتت بأولاد لئام فهي قاعدة
وقيل في أن واحدة النساء القواعد قاعد قولان (أحدهما) أنها من الصفات المختصة
بالمؤنث نحو الطالق والحائض فلم يحتج إلى علامة التأنيث (والآخر) وهو الصحيح أن ذلك
على معنى النسبة أي ذات قعود كما يقال نابل ودارع أي ذو نبل وذو درع ولا يراد بذلك
تثبيت الفعل.
الإعراب:
قوله ﴿مِنَ
الْبَيْتِ﴾
الجار والمجرور يتعلق بيرفع أو بمحذوف فيكون في محل النصب على الحال وذو
الحال القواعد وموضع الجملة من قوله ﴿رَبَّنَا
تَقَبَّلْ مِنَّا﴾
نصب بقول محذوف كأنه قال يقولان ربنا تقبل منا واتصل بما قبله لأنه من تمام الحال
لأن يقولان في موضع الحال.
المعنى:
ثم بين سبحانه كيف بنى إبراهيم البيت فقال ﴿وَإِذْ
يَرْفَعُ﴾
وتقديره واذكر إذ يرفع ﴿إِبْرَاهِيمُ
الْقَوَاعِدَ مِنَ الْبَيْتِ﴾
أي أصول البيت التي كانت قبل ذلك عن ابن عباس وعطاء قالا قد كان آدم عليه
السلام بناه ثم عفا أثره فجدده إبراهيم عليه السلام وهذا هو المروي عن أئمتنا عليهم
السلام وقال مجاهد بل أنشأه إبراهيم عليه السلام بأمر الله عز وجل وكان الحسن يقول
أول من حج البيت إبراهيم وفي روايات أصحابنا أن أول من حج البيت آدم عليه السلام
وذلك يدل على أنه كان قبل إبراهيم وروي عن الباقر أنه قال أن الله تعالى وضع تحت
العرش أربع أساطين وسماه الضراح وهو البيت المعمور وقال للملائكة طوفوا به ثم بعث
ملائكة فقال ابنوا في الأرض بيتا بمثال وقدره وأمر من في الأرض أن يطوفوا بالبيت
وفي كتاب العياشي بإسناده عن الصادق قال أن الله أنزل الحجر الأسود من الجنة لآدم
وكان البيت درة بيضاء فرفعه الله تعالى إلى السماء وبقي أساسه فهو حيال هذا البيت
وقال يدخله كل يوم سبعون ألف ملك لا يرجعون إليه أبدا فأمر الله سبحانه إبراهيم
وإسماعيل أن يبنيا البيت على القواعد وعن أمير المؤمنين عليه السلام أن أول شيء نزل
من السماء إلى الأرض لهو البيت الذي بمكة أنزله الله ياقوتة حمراء ففسق قوم نوح في
الأرض فرفعه وقوله ﴿وَإِسْمَاعِيل﴾ُ
أي يرفع إبراهيم وإسماعيل أساس الكعبة يقولان ربنا تقبل منا وفي حرف عبد الله بن
مسعود ويقولان ربنا تقبل منا ومثله قوله سبحانه والملائكة يدخلون عليهم من كل باب
سلام عليكم أي يقولون سلام عليكم والملائكة باسطوا أيديهم أخرجوا أنفسكم أي يقولون
وقال بعضهم تقديره يقول ربنا برده إلى إبراهيم عليه السلام قال لأن إبراهيم وحده
رفع القواعد من البيت وكان إسماعيل صغيرا في وقت رفعها وهو شاذ غير مقبول لشذوذه
فإن الصحيح أن إبراهيم وإسماعيل كانا يبنيان الكعبة جميعا وقيل كان إبراهيم يبني
وإسماعيل يناوله الحجر فوصفا بأنهما رفعا البيت عن ابن عباس وفي قوله ﴿رَبَّنَا
تَقَبَّلْ مِنَّا﴾
دليل على أنهما بنيا الكعبة مسجدا لا مسكنا لأنهما التمسا الثواب عليه والثواب إنما
يطلب على الطاعة ومعنى ﴿تَقَبَّلْ
مِنَّا﴾
أثبنا على عمله وهو مشبه بقبول الهدية فإن الملك إذا قبل الهدية من إنسان أثابه على
ذلك وقوله ﴿إِنَّكَ
أَنتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ﴾
أي أنت السميع لدعائنا العليم بنا وبما يصلحنا وروي عن الباقر أن إسماعيل
أول من شق لسانه بالعربية وكان أبوه يقول له وهما يبنيان البيت يا إسماعيل هات ابن
أي أعطني حجرا فيقول له إسماعيل بالعربية يا أبة هاك حجرا فإبراهيم يبني وإسماعيل
يناوله الحجارة وفي هذه الآية دلالة على أن الدعاء عند الفراغ من العبادة مرغب فيه
مندوب إليه كما فعله إبراهيم وإسماعيل عليهما السلام.
قصة مهاجرة إسماعيل وهاجر:
روى علي بن إبراهيم بن هاشم عن أبيه عن النضر بن سويد عن هشام عن الصادق قال إن
إبراهيم كان نازلا في بادية الشام فلما ولد له من هاجر إسماعيل اغتمت سارة من ذلك
غما شديدا لأنه لم يكن له منها ولد فكانت تؤذي إبراهيم في هاجر وتغمه فشكا ذلك
إبراهيم إلى الله عز وجل فأوحى الله إليه إنما مثل المرأة مثل الضلع المعوج إن
تركته استمتعت به وإن رمت أن تقيمه كسرته وقد قال القائل في ذلك:
هي الضلع العوجاء لست تقيمها * ألا إن تقويم الضلوع انكسارها
ثم أمره أن يخرج إسماعيل وأمه عنها فقال أي رب إلى أي مكان قال إلى حرمي وأمني وأول
بقعة خلقتها من أرضي وهي مكة وأنزل عليه جبرائيل بالبراق فحمل هاجر وإسماعيل
وإبراهيم فكان إبراهيم لا يمر بموضع حسن فيه شجر ونخل وزرع إلا قال يا جبرائيل إلى
هاهنا إلى هاهنا فيقول جبرائيل لا امض لا امض حتى وافى مكة فوضعه في موضع البيت وقد
كان إبراهيم عاهد سارة أن لا ينزل حتى يرجع إليها فلما نزلوا في ذلك المكان كان فيه
شجر فألقت هاجر على ذلك الشجر كساء كان معها فاستظلت تحته فلما سرحهم إبراهيم
ووضعهم وأراد الانصراف عنهم إلى سارة قالت له هاجر لم تدعنا في هذا الموضع الذي ليس
فيه أنيس ولا ماء ولا زرع فقال إبراهيم ربي الذي أمرني أن أضعكم في هذا المكان ثم
انصرف عنهم فلما بلغ كدى وهو جبل بذي طوى التفت إليهم إبراهيم فقال ربنا إني أسكنت
من ذريتي بواد غير ذي زرع إلى قوله لعلهم يشكرون ثم مضى وبقيت هاجر فلما ارتفع
النهار عطش إسماعيل فقامت هاجر في الوادي حتى صارت في موضع المسعى فنادت هل في
الوادي من أنيس فغاب عنها إسماعيل فصعدت على الصفا ولمع لها السراب في الوادي وظنت
أنه ماء فنزلت في بطن الوادي وسعت فلما بلغت المروة غاب عنها إسماعيل ثم لمع لها
السراب في ناحية الصفا وهبطت إلى الوادي تطلب الماء فلما غاب عنها إسماعيل عادت حتى
بلغت الصفا فنظرت إلى إسماعيل حتى فعلت ذلك سبع مرات فلما كان في الشوط السابع وهي
على المروة نظرت إلى إسماعيل وقد ظهر الماء من تحت رجليه فعدت حتى جمعت حوله رملا
وأنه كان سائلا فزمته بما جعلت حوله فلذلك سميت زمزم وكانت جرهم نازلة بذي المجاز
وعرفات فلما ظهر الماء بمكة عكفت الطير والوحوش على الماء فنظرت جرهم إلى تعكف
الطير على ذلك المكان فاتبعوها حتى نظروا إلى امرأة وصبي نزول في ذلك الموضع قد
استظلوا بشجرة قد ظهر لهم الماء فقال لهم جرهم من أنت وما شأنك وشأن هذا الصبي قالت
أنا أم ولد إبراهيم خليل الرحمن عليه السلام وهذا ابنه أمره الله أن ينزلنا هاهنا
فقالوا لها أ تأذنين أن نكون بالقرب منكم فقالت حتى أسأل إبراهيم قال فزارهما
إبراهيم يوم الثالث فقالت له هاجر يا خليل الله إن هاهنا قوما من جرهم يسألونك أن
تأذن لهم حتى يكونوا بالقرب منا أ فتأذن لهم في ذلك فقال إبراهيم نعم فأذنت هاجر
لجرهم فنزلوا بالقرب منهم وضربوا خيامهم وأنست هاجر وإسماعيل بهم فلما زارهم
إبراهيم في المرة الثانية ونظر إلى كثرة الناس حولهم سر بذلك سرورا شديدا فلما تحرك
إسماعيل وكانت جرهم قد وهبوا لإسماعيل كل واحد منهم شاة وشاتين وكانت هاجر وإسماعيل
يعيشان بها فلما بلغ مبلغ الرجال أمر الله تعالى إبراهيم أن يبني البيت فقال يا رب
في أي بقعة قال في البقعة التي أنزلت على آدم القبة فأضاءت الحرم قال ولم تزل القبة
التي أنزلها الله على آدم قائمة حتى كان أيام الطوفان في زمان نوح فلما غرقت الدنيا
رفع الله تلك القبة وغرقت الدنيا ولم تغرق مكة فسمي البيت العتيق لأنه أعتق من
الغرق فلما أمر الله عز وجل إبراهيم أن يبني البيت لم يدر في أي مكان يبنيه فبعث
الله جبرائيل فخط له موضع البيت وأنزل عليه القواعد من الجنة وكان الحجر الذي أنزله
الله على آدم أشد بياضا من الثلج فلما مسته أيدي الكفار أسود قال فبنى إبراهيم
البيت ونقل إسماعيل الحجر من ذي طوى فرفعه في السماء تسعة أذرع ثم دله على موضع
الحجر فاستخرجه إبراهيم ووضعه في موضعه الذي هو فيه وجعل له بابين بابا إلى المشرق
وبابا إلى المغرب فالباب الذي إلى المغرب يسمى المستجار ثم ألقى عليه الشيح والإذخر
وعلقت هاجر على بابه كساء كان معها فكانوا يكونون تحته فلما بناه وفرغ حج إبراهيم
وإسماعيل ونزل عليهما جبرائيل يوم التروية لثمان خلت من ذي الحجة فقال يا إبراهيم
قم فارتو من الماء لأنه لم يكن بمنى وعرفات ماء فسميت التروية لذلك ثم أخرجه إلى
منى فبات بها ففعل به ما فعل ب آدم فقال إبراهيم لما فرغ من بناء البيت رب اجعل هذا
بلدا آمنا وارزق أهله من الثمرات الآية1.
1- مجمع البيان في
تفسير القرآن / اية الله مكارم الشيرازي.
|