رجوع الى القائمة

الحجّ ضيافة الله

 

جوهـرة الايمـان


مظاهر الحياة وظواهرها تتصل بجواهر معدودات، وكل جوهر تتصل به مئات الظواهر والمظاهر. واولوا الالباب وهم العقلاء الحكماء من البشر ، هـم الذيـن ينفـذون ببصـيرتهم الى جوهر الحقائق ، ولا يقفون عند المظاهر السطحية التي لا تغني ولا تسمن من جوع. مثلاً؛ نحن ندعو الله تعالى دوماً ان يرزقنا العافية ، بتمامها وشمولها ودوامها ، ولكن نتسائل: ما هي العافية ؟

العافية هي ان تكون بُنية الانسان الاساسية سالمة ، فحتى لو طرأ مرض من الامراض على هذا الانسان ، فان هذا المرض سرعان ما يتلاشى ويتبدد ويعود الجسم بكامل صحته. اما اذا كانت بُنيـة هذا الانسان ضعيفة ، فإن العافية لا تزوره. فلا يكاد يتخلص من مرض. إلاّ ويبتلى بمرض آخر. اذن نحن يجب ان نبحث عن جوهر العافية وليس فقط عن مظاهرها الخارجية.

هـذا فـي الانـسان كفـرد ، كذلك فـي المجتمـع ، فبعض المجتمعات مثلاً تجدها مبتلاة بعشرات الاخلاقيات السلبية السيئة والعياذ بالله من قبيل الكبر ، والرشوة ، والدجـل ، والازدواجية ، والخيانة ، وعصيان من هو اكبر ، وظلم من هو اصغر ، والتفكك الاسري، وغيرها من الاخلاقيات السيئة.

ونتسائل: ما هو الخلق الفاضل في المجتمع ؟

ويجيب علماء الاجتماع؛ بان اساس الخلق الفاضل في المجتمع، هو ايمان ذلك المجتمع بالاخلاق بانها السبيل لسيرته في الحياة. فالمجتمع الذي يتمتع بالخلق الفاضل، هو المجتمع الذي يملك جوهر الاخلاق. بينما المجتمع الذي يفقــد ذلك هو المجتمع الذي لا يعتمد الاخلاق منهجاً ، ولا يتمسك بالآداب طريقاً ، ولا يهتم بالجوهر الذي امر الله سبحانه وتعالى به.

لـذلك مثـل هـذا المجتمـع اذا تكلمـت معه عن مفردات الاخلاق ، وارشدتـه الـى السليـم منهـا ونبهتـه الـى السقيـم منهـا ، فأنـه لاينتفــع بذلك، لان المشكلة ليست مشكلة المصاديق والمفردات ، وانما المشكلة هي ان هذا المجتمع طبيعته اللاإلتزام والا اهتمام واللاتأدب ، لذلك تجد ان كل المفاسد الاجتماعية متراكمة فيه.

الايمان جوهرة وتجليات:

قـد نتحـدث عن الصلاة وعن الصوم وعن الصدق وعن الوفـاء وعن سائر الواجبات التي امر الله سبحانه بها ، ولكن كل تلك انما هي مفردات الايمان وتجلياته ومصاديقه. اما الايمان فهو شيء آخر.

فـإذا كان الايمـان ضعيـفاً ، فإن كل هذه المصاديق تكون ضعيفة. فحتى لو صلى ، فإن صلاته لا روح فيها. فهو يسهى عنها ، وبالتالي لا تنهاه عن الفحشاء والمنكر ، ولا تأمره بالعطاء والانفاق للمساكين. لـذلك فـإن الصـلاة التي لا خشوع فيهـا ، انما هي ويل على صاحبها ﴿ فَوَيْلٌ لِلْمُصَلِّينَ * الَّذِينَ هُمْ عَن صَلاَتِهِمْ سَاهُونَ (الماعون/4-5)

فبدلاً من ان تكون رحمة ، تكون ويلاً. وكما الصلاة كذلك سائر الواجبات التي قد يؤديها الانسان بصورة آلية.

ان المجتمع الناهض، هو المجتمع الذي تكون جوهرة الايمان فيه جوهرة نقية، صافية، حقيقية، اما المظاهر فليست مصاديـق. فقد نجد مجتمـعاً من المجتمعات كمجتمع الكوفة في زمن الامام الحسين عليه السلام يقيم الصلاة بوقتها، ولكنه يجتمع مع ذلك على قتال حقيقة الصلاة وجـوهرها ورمزهـا وامامها، أبا عبد الله الحسين عليه السلام.

ان جيش الكوفة بقيادة عمر بن سعد ، اقام صلاة المغرب والمعشاء ليلة عاشوراء ، وكذلك صلاة صبح يوم العاشـر مـن المحـرم ، ولكن اية صـلاة كانـت تلك؟! انها الصلاة التي يصدق عليها قوله تعالى: { فَوَيْلٌ لِلْمُصَلِّينَ}. ويل لهذا الانسـان الذي يصلي بهذه الصلاة ، التي هي شرك وتصدية ومكاء. ان صلاته بدل ان تكون معراجاً الى الله سبحانه وتعالى، فإنها تكون وزراً عليه.

الحج جوهرة الايمان:

الحج من الفرائض الدينية التي تزيد جوهرة الايمان في الفرد ، وكذلك في المجتمع. فالمجتمع الذي يبعث بوفـده الـى الرحمـن سبحانه وتعالى، هذا المجتمع تزداد فيه جوهرة الايمان وحقائقه، وليست فقط مظاهره. ذلك ان الحج ليس ذا جانب فردي فقط ، وانما هو عبادة فردية واجتماعية.

فالانسان منـذ ان يخـرج من بيته متوجهاً الى الله سبحانه، وملبياً داعي الله، فإن الملائكة منذ تلك اللحظة تحف به، ويكون قلبه يخفق بالايمان ، وينبـض بالتقـوى ، ولا يواجـه في طريقه صعوبة او مشكلة او أذاً ، إلاّ وتسجل له بذلك حسنة.

ان هذا الانسان هو في ضيافة الله، محفوفاً بملائكة الله، الى ان يذهب الى التلبية.. "لبيك اللهم لبيك.. لا شـريك لك.." وهنا لك يستجيـب الله سبحانه وتعالى له، لانه ضيف عند اكرم المضيفين.

وهكذا فإن هذا الانسان منذ لحظة خروجه من بيته حاجاً ، الى ان يصل الى الميقات ، ومن الميقات الى مكة المكرمة.. الى ان يكون في وادي عرفة ، فإذا كان ظهـيرة يوم عرفة في ذلك الواد ، فإن الله سبحانه يخاطبه، ويقول له عبدي: " قد غُفر لك ، وطهرت من الدنس، فاستقبل واستأنف العمل ".

وكما جـاء فـي الحديـث عن أبي عبد الله عليه السلام قال: ".. فقال أبي عليه السلام: ما وقف بهذا الموقف -عرفات- أحد من الناس من مؤمن ولا كافر إلاّ غفر الله له ".

فهـذه الاوراق الـتي طـلاها الحاج بالسواد باعماله السيئة في كل حياته ، تتساقط عنه وتزول ، ويفتح صفحة جديـدة ، ويكون كيوم ولدته أمه. ولكن المشكلة هي بمجرد خروجه من عرفات، لان الشيطان يلحقه مرة اخرى، كما جاء في الحديث الشريف، لذلك فإن الكثير من المؤمنين يتمنون الموت في تلك اللحظة، ويدعون الله بذلك.

روي ان الحج افضل من الصلاة والصيام ، لان المصلي انما يشتغل عن أهله ساعة ، وان الصائم يشتغل عن أهله بياض يوم ، وان الحاج يشخص بدنه ويضحى نفسه وينفق ماله ويطيل الغيبة عن أهله لا في مال يرجوه ولا الى تجارة.

ذلك ان الحاج يواجه في الحج تلك الصعوبات؛ في عرفات، وعند الجمرات، او في الطواف.. وقد يواجه هناك الموت من شدة الحر والزحام، فهو حاسر الرأس امام اشعة الشمـس اللاهبـة، وهو هناك ليس فقــط لا يجوز له ان يزاحم أحـد او يدفعــه ، بل حتـى الجـدال بالحـق لا يجـوز له ﴿ الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَعْلُومَاتٌ فَمَـن فَرَضَ فِيهِنَّ الْحَجَّ فَلا رَفَثَ وَلا فُسُوقَ وَلاَ جِدَالَ فِي الْحَجِّ (البقرة/197)

فهو لا يستطيع ان يقول لا والله، بلى والله. فهناك تسليم مطلق لله عز وجل.

فالمجاهد اذا يقتل فهو قد قاتل وقَتل وقُتل، اما الحاج فانه إن مات مات بـدون ان يدافع عن نفسه ، ولو كـان يـدافع عن نفسه لربما لم يمت. وهذا التسليم المطلق يربي في الانسان جوهرة الايمان ويصقلها ويصبغ حياته صياغة ايمانية جديدة1.


1- الحج ضيافة الله / محمد تقي مدرسي.