رجوع الى القائمة

الحجّ ضيافة الله

 

دعوة للتطوير الحضاري


في كل عام نستقبل الايام العشرة الاولى من شهر ذي الحجة الحرام ، هذه الايام التي تتميز عن سائر ايام السنة بميزات عبادية ايمانية يتقرب بها المؤمنون الى ربهم؛ نستقبلها وقلوب المؤمنين في كل ارجاء العالم تخفق ولها الى البيت الحرام ، والمشعر الحرام..

والمسلمون الذين سبق وان ادوا فريضة الحج ، او البعض ممن يهوون الذهاب للحج الا ان الموانع المختلفة اعاقتهم؛ كل هؤلاء يشعرون في هذه الايام انهم قد فقدوا شيئاً ما يجعلهم يحسون بالفراغ المؤلم ، لان من الجدير بالانسان في هذه الايام ان يكون الى جوار بيت الله مع الطائفين والمصلين والركع السجود.

ومع ذلك فان الذي يثلج صدور هؤلاء المؤمنين، ان اخوانهم المؤمنين الآخرين الذين يفدون الى بيت الله من كل سهل وواد؛ هؤلاء هم الذي يمثلونهم، لان سائر شخصيات المؤمنين تتماثل في قلوب حجيج بيت اللـه تبارك وتعالى. فهم الوفود ، وكل منهم يمثل اسرته ، وعشيرته ، وقريته ، وبلده..

ضرورة معرفة منافع الحج:

وللحج منافع جمة يستفيد منها الحجاج وغيرهم من الذين لم تتح لهم فرصة الحج. ومن المعلوم ان المنفعة لا يمكن الاستفادة منها دون معرفتها، فاذا لم نعرفها فان الفرصة ستفوتنا ، وخصوصاً هذه الفرص الكبرى التي هي ارصدة الله تعالى لنا ، والتي لابد ان نبدلها من حالة القوة والامكان والاحتمال الى حالة الفعل والواقعية والتحقق.

وقد اشار سبحانه وتعالى الى هذه المنافع في الآية الكريمة: ﴿ لِيَشْهَدُوا مَنَافِعَ لَهُمْ وَيَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ فِي أَيَّامٍ مَعْلُومَاتٍ عَلَى مَا رَزَقَهُم مِن بَهِيمَةِ الاَنْعَامِ (الحج/28).

وهذه المنافع مشتركة بين الحجاج وبين المسلمين الآخرين في كافة الاقطار ممن لم يوفقوا لاداء هذه الفريضة الالهية.

ومن المعلوم ان رصيد المسلمين من شعائر الدين كبير ، الا ان استفادتهم منها قليلة. وعلى سبيل المثال فان الصلاة - هذه الشعيرة الالهية المثلى التي هي افضل اعمال امة النبي محمد صلى الله عليه وآله - تحمل في طياتها امكانيات لاتعد ولا تحصى. فهي باستطاعتها ان تحمل البشرية الى حيث السعادة في الدنيا ، والفلاح في الآخرة. فهي معراج الانسان الى الله عز وجل، وقربان كل تقي يتقرب بها الى الباري.... ومع ذلك فان انتفاعنا من هذه الصلاة ضئيل. فما هي إلاّ عادة ورثناها من آبائنا السابقين ، ونحن بدورنا نوصلها الى الاجيال اللاحقة دون ان نستفيد من حكمها وفوائدها. وهكذا الحال بالنسبة الى سائر العبادات الاسلامية.

الحج قمة الشعائر الايمانية:

والحج يقع في قمة الشعائر الايمانية التي جعلها الله سبحانه خلاصاً للانسان من كل غل وقيد وشقاء وعذاب. وللاسف فان الأمة الاسلامية لم تعرف بعد كيفية التعامل بحكمة مع هذه الشعيرة الالهية التي توفر لنا المزيد من الفوائد والمنافع ، بل اننا ربما لا نحقق من فوائد الحج سوى واحد بالالف، اما الباقي فنحن غافلون عنه بسبب قلة وعينا ، وعدم معرفتنا بمداخل الحج ومخارجه ، وآداب التعامل مع هذه الفريضة التي اوجبها الله تعالى علينا.

وفي هذا المجال قال ربنا عز وجل لنبيه ابراهيم عليه السلام عندما بنى الكعبة ، وامره بدعوة الناس الى الحج: ﴿ وَأَذِّن فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ (الحج/27). فما كان من ابراهيم الخليل عليه السلام إلاّ ان صعد الجبل ونادى في الناس، وحثهم على الحج. علماً ان الحياة لم تكن موجودة في ارض مكة الجرداء ، ولكن الله حمل كلام نبيـه الخليل الى كل اذن واعيـة ، وها هي ذي السنون والعصور تمر و تتوالى ، ووفود الرحمان تتقاطـر الى بيت الله بكل لهفـة واشتيـاق ، يتجـاوزون كل الصعـاب ، ويركبون الاخطار في سبيل ان يصلوا الى بيت الله الحرام.

تكريس حالة الخضوع للخالق:

ثم يقول تعالى: ﴿... يَأْتُوكَ رِجَالاً وَعَلَى كُلِّ ضَامِرٍ يَأْتِينَ مِن كُلِّ فَجٍّ عَمِيقٍ (الحج/27).

فمن جملة آداب الحج استحباب المشئ ، وقد فضّل الله تعالى الحج مشياً على الركوب ، الامر الذي يدل على ان المشئ طريق التذلل والخضوع لله.

وفي هذا المجال يروى ان الامام السجاد عليه السلام كان يمشي الى الحج على قدميه الحافيتين متخطياً اشواك الصحاري ورمالها الحارقة، وصخور المرتفعات ووعورة الطريق.. وكان عليه السلام يضيف الى ذلك عملاً آخر باختياره القوافل التي تأتي من البلاد البعيدة والتي لا تعرفه، لكي يقوم بخدمتها. فيختار -مثلاً- قوافل أهل الكوفة ، وفي ذات مرة التقت قافلة اهل العراق مع قافلة اهل المدينة في الطريق، فتحلق أهل المدينة على الامام يستفيدون من علمه ومعارفه ، ويتبركون به ، ويسألونه الدعاء.. فتعجب أهل الكوفة وقالوا: من الرجل ؟ فقال أهل المدينة: انه الامام علي بن الحسين بن علي ابن ابي طالب. فقالوا: لقد كنا نتعامل معه كأحدنا ، بل كنا نأمره باعتباره غريبـاً مجهولاً وهو يطيع ذلك. ولما حدث ذلك أمر الامام اصحابه بنقل متاعه الى قافلة اخرى، فجاء أهـل الكوفة يسألونه البقاء معهم، فقال عليه السلام لهم: سأرحل عنكم لانكم عرفتموني ، واني اكره ان اكون مع قافلة تعرفني.

ان هذه الرواية تدل بوضوح على ان الحج ينبغي ان يوجد حالة التذلل الى الله جل وعلا عند الانسان ليوصلها بسائر حياته. فالامام الصادق عليه السلام يقول في هذا الصدد: " ما من بقعة أحب الى الله تعالى من المسعى لانه يذل فيها كل جبار".

وفلسفة الحج هذه تتجاوز الى سائر الاحكام الشرعية، لان حالة الخضوع والتذلل للخالق عز وجل إنما هي مطلوبة.

ومن حكم الحج والعلل التي بسببها فرضه الله سبحانه على المسلمين ذوبـان المجتمع الاسلامي في ذاته ليخلق واقعاً جديداً ؛ فمسلموا آسيا يلتقون مع مسلمي اوروبا ، والسود يلتقون مع البيض.. وهم جميعاً يتبادلـون الآراء حول اوضاعهم ، ويجددون عهدهـم مع الله تبـارك اسمـه للقيـام باوامره ، وترك نواهيه. والحجاج ينتفعون من كل هذه اللقـاءات فـي سبيل الهدف الأعلـى ، وهو الامتثال لله سبحانه ، وتنفيذ جميـع أوامـره.

مجالات منافع الحج:

ان هذا النموذج البشري الذي ينحدر على الديار المقدسة ، من شأنه ان ينفع المسلمين في عدة مجالات هي:

1- الاحساس بالشخصية والكيان.

فعلى الرغم من ان الانسان قد اوتي عقلاً وفكراً ، إلاّ أن الكثير من الناس نجد ان عقولهم وقلوبهم في عيونهم. فاذا تم تحشدهم لتأدية عمل ما، فانهم لايحسون بانفسهم ولكن تصور وجود امة مسلمة سوف يتحول في الحج الى واقع عيني ماثل امامهم.

2- ايجاد تموج فكري.

والتموج البشري في الحج سوف يحدث في الامة تموجاً فكرياً ، وهذا ما تؤكد عليه الاحاديث الشريفة التي تقول: " اعقل الناس من جمع عقول الناس الى عقله " و " اعلم الناس من جمع علوم الناس الى علمه" و " من شاور الرجال شاركها في عقولها ".. فكيف اذا داور الحجاج نقاشاتهم وبحوثهم في هذا المؤتمر العظيم حول قضايا الامة ، وخصوصاً ان اكثر القيادات الاسلامية تهوي الى الحج بغية ارشاد الناس ، وتوجيههم لما فيه حسن العاقبة ؟ وبالاضافة الى ذلك فان هذا الملتقى البشري سوف يسهم في ايجاد رابطة فكرية قوية تقدم للامة حلولاً ناجعة و مثمرة لكل مشاكلهم التي يعانون منها.

3- بناء الكيان الروحي.

فالتموج الانساني المحتشد في الحج يفرز روحاً هائلــة يهديهـا الى كل
حاج استطاع الاستفادة من احكام الحج. فالانسان المسلم حينما يجد سائر المسلمين منهمكين في العبادة، فانه يندفع ذاتياً الى التبتل. فعلى سبيل المثال عندما تقام الصلاة جماعة فانما تكون أشد أثراً ، وابلغ وانفذ في النفس من جميع النواحي.

4- التموج الحضاري.

فالفوارق العرقية والقومية والطبقية يسقط اعتبارها في الحج لتعطي للحجاج دروسـاً في الوحدة الحقيقية بين المسلمين. وحينئذ تنصهر جميع النفوس والطاقات في بوتقة التوحيد.
وعلى المسلمين كافة ان يجسدوا هذه الفوائد في واقعهم الملموس، لكي لاتقتصر فوائد الحج على جماعات معينة. ومن اجل تحقيق استفادة مثلى من الحج، على المسلمين ان يلتقوا بممثليهم ووفودهم الى الحج ليستطلعوا اخبار الأمة الاسلامية. وهذا ما تؤكده الاحاديث التي حثت على زيارة الحاج كالحديث الشريف الذي يقول: " من زار زائرنا كان كمن زارنا ".

هل نحن في مستوى هدف الرسالة:

وفي كل سنة تطل علينا فيها ايام الحج المباركة، لابد من تذكر حقيقة هامة، وهي ان الرسالة الاسلامية التي بعثها خالق الارض والسماء الى البشر انما جاءت لتقضي على كل الوان الشقاء والعناء والآلام التي يعاني منهـا البشـر ، ولكن علينـا ان نسأل انفسنا بجديـة: ترى هل تجسد هذا الهدف على واقع المسلمين اليوم ؟

بالطبع لا ، لان المآسي تتعمق وتزداد عند الذين يدعون انتماءهم الى الدين. فقائمة الدول الاكثر فقرا وتخلفا تبتدئ بالبلدان الاسلامية. والحركات الاسلامية يمكنها ان تلقي بسيل التهم على الحكام الظلمة والطواغيت في تخلف المسلمين. وهذا صحيح لانهم رمز الفساد، بل اكبر عامل في تكريس تخلف الأمة وتبعيتها. ولكن هل هذا يعني ان يتملص الانسان المسلم ان تكليفه الشرعي ؟

كلا بالطبع ، لان المسؤولية ليست ملقاة على عاتق الطغاة فحسب ، وانما للمجتمع قسط وافر من مسؤولية ايجاد التخلف. والقرآن الكريم عندما يبين لنا فساد الحكم السياسي ، وكيفية ظهور الحكومات والانظمة الظالمـة ، يوجه المسؤوليـة الى المجتمع ايضـاً. نلاحظ ذلك في قوله سبحانه:
﴿ وَإِذَا أَرَدْنَآ أَن نُّهْلِكَ قَرْيَةً أَمَرْنَا مُتْرَفِيهَا فَفَسَقُوا فِيهَا فَحَقَّ عَلَيْهَا الْقَوْلُ فَدَمَّرْنَاهَا تَدْمِيراً (الاسراء/16).

وهذا يعني ان الفاسقين هم الذين تسلموا زمام السلطة السياسية ، واوصلوا البلاد الى حالة الدمار. والله تبارك وتعالى انما سمح لهؤلاء المترفين ان يصبحوا امراء هذه القرية، التي تعني المنطقة التي يعيش فيها الانسان ايا كانت ، لانه اراد ان ينتقم من اهل هذه القرية لفسقهم ، وخروجهم عن تعاليم الدين. ولذلك قيل: " كما تكونون يولى عليكم".

فالحكومات هي اساس الفساد، ولكنها ليست كل الفساد، لان هذا الفساد يضرب بجذوره في ارض المجتمع اولا ثم ينمو ليتجسد في النظام السياسي.

وعلى هذا الاساس فان السبب الرئيس في تخلف الأمة، هو فقدان الروح الحقيقية للاسلام ، والتعويض عنها بالقشور السطحية. وبمعنى آخـر؛ فاننا قد أفرغنا التعاليم الاسلامية من اهدافها وحكمها وحقائقها، ظانين ان تلك القشور قد تسقط التكليف الشـرعي عنـا. في حين ان الله عز وجل يقـول: ﴿ إِنَّمَا يَتَقَبَّلُ اللّهُ مِنَ الْمُتَّقِينَ (المائدة/27).

الامتثال للقيادة من مقتضيات الحج:

فالحج لايمكن ان يتقبل الا من الانسان المتقي، لان الحج عندما يتحول الى عنوان وشعار للانسان دون معرفة الدوافع والفوائد الحقيقية له، سوف يعطي منفعة قليلة ، في حين ان معرفة احكام الحج وعلله من شأنها ان تزود الانسان بمنافع كثيرة. وعلى سبيل المثال فان الله عز وجل يذكر جانباً من فوائد الحج في قوله: ﴿ ثُمَّ لْيَقْضُوا تَفَثَهُمْ وَلْيُوفُوا نُذُورَهُمْ وَلْيَطَّوَّفُوا بِالْبَيْتِ الْعَتِيقِ (الحج/29).

وكلمة " تفث " انما تعني الامام المعصوم عليه السلام والقيامة الشرعية في زمن الغيبة. وهذا يعني ان الحج لا يمكن ان يقبل دون ان ينتمي الانسان المسلم الى الامام ، ويأخذ التعاليم الرسالية منه ، ثم يبدأ ببث وصاياه ، وارشاداته في اصقاع الارض لنشر افكار القيادة الرساليـة.

وبناء على ذلك فان الحج الذي يتضمن الالتقاء بالقيادة الرسالية ، ومن ثم نشر افكارها ومبادئها، والحج الذي يبعث في نفوس المسلمين روح النهضة، واجتناب الرجس وقول الزور.. هذا الحج هو الذي ينفع الناس، ويرفع المشاكل والآلام عن الأمة الاسلامية. واذا كان الحج في هذا الاطار، فانه سيكون حجـاً حقيقيـاً ونافعـاً.

الاسلام دين الحضارة:

ومن المعلوم ان الاسلام هو دين الحضارة، حيث يربي الانسان على التضحية والعمل والجدية والتفكير المنهجي.. ونحن اذا فقدنا هذه القيم في واقعنا، فاننا سوف لن نصل الى ما نصبو اليه. اما اذا تحول الاسلام في واقع الامة الى هذه القيم، وخصوصاً عند ابناء الحركة الاسلامية والطليعة الذين يجب ان يكونوا الانموذج الذي يقتدى به في التقنية وسائر الاعمال والمجالات الاخرى، فاننا سنستطيع - دون ريب - ان نحقق اهدافنا وطموحاتنا الحضارية والرسالية.

ولذلك ينبغي ترسيخ هذه القيم الحضارية في الامة من خلال التأكيد على الفرائض والشعائر الاسلامية التي يقف الحج في مقدمتها ، والذي يدعونا الى فهم الاسلام من جديد ، وربطه بواقع الامة من خلال تجميع الطاقات وصهر القدرات في بوتقة التوحيد، لان ذكر الله تعالى يجعل الانسان في مستوى حضاري متقدم. فهو يدفعه الى ان يرتفع على اهوائه وشهواته، ومن ثم السيطرة على الحياة وتحقيق التقدم فيها1.


1- الحج ضيافة الله / محمد تقي مدرسي.