دور الحجّ في ترسيخ السّلام في العلاقات الاجتماعيّة
﴿أَوَ لَم يَرَوا أَنّا جَعَلْنا حَرَماً آمِناً﴾.
من مهام الحج تحقيق السلام في العلاقات الاجتماعية، وتوفير فرصة نموذجية للسلام في
العلاقات فيما بين الناس، في فترة الإِحرام في الحج، وتوفير رقعة نموذجية من الأرض
; لتمكين السلام في العلاقات الاجتماعية هي رقعة الحرم.
ولكي نعرف موقع السلام في هذه الرحلة، لا بدّ من أن نستعرض المراحل الأساسية فيها
بإيجاز شديد، بالقدر الذي نستطيع أن نتعرف فيه على مواقع السلام في هذه الرحلة
الإِلهية.
الحج رحلة الأنا والذات إلى الله على الطريقة الإِبراهيمية أواختزال لهذه الرحلة
الشاقة التي قطعها من قبل أبونا إبراهيم عليه السلام، على الطريقة الرمزية التي
تعتمدها فريضة الحج بصورة واضحة.
هذه الرحلة تبدأ مهمتها من الميقات، وتنتهي بطواف النساء وطواف الوداع والآن نشير
بإجمال إلى الأشواط الرئيسة التي يقطعها الحاج في هذه المرحلة من الأنا إلى الله
تعالى.
1ـ التحرر من الأنا:
تبدأ هذه الرحلة في الميقات بتجاوز الذات والأنا، ومحاولة صهر الذات والأنا في
المسيرة الإِيمانية إلى الله تعالى، وهذه هي المرحلة الأولى في هذه الرحلة الإِلهية.
وتصبّ هذه الذوات بعد انسلاخها عن الأنا، ومختصات هذا الأناـ في الحشد البشري ـ
الكبير، في الطواف حول البيت، كما تصب السواقي والأنهر الصغيرة في البحر الكبير،
فلا تستطيع أن تميز ـ بعد ذلك ـ أين هي مياه هذه السواقي من البحر الكبير، وهي رحلة
شاقة وذات معاني كبيرة في حياة الإِنسان، تستحق منا الكثير من التأمل والتفكير.
تبدأ هذه الرحلة من الميقات، حيث يتجرّد الإِنسان فيه من ذاته وأهوائه، وخصائصه
التي تفرزه عن الآخرين وتفرده، وتحجزه عن الانصهار في المسيرة الإلهية الحاشدة،
التي لا يتمايز فيها الأفراد، ولا يحجز بعضهم عن البعض شيءٌ من هذه النوازع،
والفوارز التي تفصل الناس بعضهم عن بعض.
إنّ الميقات حدّ فاصل، بين الأنا وبين الجماعة المؤمنة. فقبل أن يدخل الحاج الميقات
يعيش كما يعيش سائرُ الناس الأنا تمييزاً وتشخيصاً. وللأنا تظاهر وبروز في حياتهم،
وللأنا سماته معالمه الواضحة. فإذا دخل الميقات تضاءل الأنا وخف صراخه وصوته وفقد
معالمه ومميزاته، وفقد لونه وصبغته الصارخة، وهذا الانقلاب في الشخصية والموقع يتمّ
في الميقات. ويرمز إلى هذا الانقلاب (لباس الإِحرام).
وقد قلنا: إن الحج يعبّر عن المعاني والمفاهيم التي تنطوي عليها بلغة الرمز. فعند
الميقات يتجرد الحاج عن كل ملابسه وما تحمله من سمات شخصية وطبقية وقومية وإقليمية.
إنّ لباس الإِنسان يحمل هويته ويحمل الإِشارة إلى شخصية الانسان وانتمائه القومي
والاقليمي والعقدي وطبقته مهنته ودرجته في الثراء والفقر والمستوى الاجتماعي. فإذا
بلغ الميقات تجرد عن ملابسه، ولبس ثياب الإِحرام إزاراً ورداءً... وكانا قطعتين من
القماش، لم يستعمل فيهما الخيط، كالآخرين على نحو سواء في غير بذبح ولا شرف ولا
تمييز، وخلع عن نفسه ملابسه التي كانت تحمل هويته وتعبر عن شخصيته.
إنّ هذه الخطوة الأولى في الميقات تعبّر عن انسلاخ الانسان عن هويته وشخصيته
وأنانيته وتعبر أيضاً عن العبور على الذات وتجاوز الأنا. وكما يجرد الميت عن ملابسه،
لأنّ دور الأنا في حياته قد انتهى، ولم يعد للأنا حجم ولا دور ولا شكل في المرحلة
الجديدة من حياته، كذلك الميقات مرحلة أخرى من الحيات ضمن هذه الحياة الدنيا، يتجرد
فيها الحاج عن هويته وأنانيته، وينسلخ عن ذاته ليدخل الميقات، وكان الميقات مصفاة،
وأول شيء تأخذه هذه المرحلة من الإِنسان هو ذاته، فإذا تجرد عن الأنا وانسلخ عن
ذاته حق له أن يتجاوز الميقات إلى الحج، وما لم يتخلص الإِنسان عن ذاته فلا يحق له
أن يتجاوز الميقات إلى لقاء الله. فإذا خلص في هذه المصفاة من ذاته اجتاز الميقات
وتوجه إلى الحج.
وإنّ أكثر ما يثير المتاعب في حياة الناس ويعكّر العلاقة فيما بينهم هو التصادم
الذي يحدث بين الذوات والأنانيات، وعندما تذوب الذات عند الانسان وتنصهر، ويخلص
الانسان من طغيان الأنا، ينتهي شطر كبير من مشاكل الإِنسان، ولقاءاته السبيلة مع
الآخرين، وما يستتبعه من صدام وتردي العلاقة، وحالة الأثرة والأنانية، وحب الذات،
فإذا خلصت حياته من الذاتية والأنانية تمكن أن يسلم من هذه المشاكل والمتاعب التي
تعجّ بها حياة الناس في المجتمع، واستطاع أن يضع حياته وعلاقاته الاجتماعية على أسس
سليمة وأن يحكم السلام في علاقاته مع الآخرين.
التجمل والترف:
وفي الميقات يختص الإنسان مع خصلة أخرى من خصال الأنا، وهي خصلة ممدوحة لو كانت في
الحدود المعقولة، التي لا تستأثر باهتمام الانسان كله ولا تملك إرادته ولا تحكمها،
فإذا تحولت هذه الخصلة إلى خصلة حاكمة على إرادته كانت صفة ذميمة من صفات الإِنسان،
وتلك هي خصلة التجمل، فهي خصلة ممدوحة في الحدود التي تظهر على الانسان نعم الله
تعالى وفضله، فإذا تحولت إلى خاصية من خواص الذات، مهمتها إبراز الذات وإظهارها، لا
إبراز نعم الله تعالى وفضله، تحولت إلى صفة ذميمة من صفات الذات، وسلبته القدرة على
تحمل الشظف والسير على طريق ذات الشوكة.
وفي الميقات يدخل الأنا في هذه التصفية الإِلهية، ويلزم الإِحرام التخلي في فترة
الإِحرام عن هذه الخصلة، ويحرم عليه الطيب والتجمل، حتى بالنسبة للنساء، فيما
يتجاوز الحد المألوف للمرأة في التجمل، وذلك لتمكين الإِنسان من هذه الخصلة التي
تشكل حالة تظاهر للأنا، وحالة ترف تؤثر تأثيراً سلبياً على إرادة الإِنسان، وقدرته
في مواجهة متاعب الطريق، إذا لم يعمل على تعديل وتهذيب هذه الخصلة، وإرجاعها إلى
نصابها الممدوح، الذي يقره الإِسلام ويأمر به.
سلطان الهوى والشهوات:
وفي الميقات يمر الأنا بتصفية ثالثة، وهي تخليص الإِنسان من سلطان الهوى والشهوات
والغرائز، وهي مسألة في غاية الدقة في الإِسلام فقد قلنا إنّ تخليص الإِنسان من
سلطان الهوى والشهوات، ولم نقل من الهوى والشهوات، ذلك لأنّ الإِسلام لا يكافح
الأهواء والشهوات في نفس الإنسان، وإنما يعتبرها ضرورة من ضرورات الحياة ومن دونها
تختل الحياة، وإنما الذي يكافحه الإسلام هو سلطان الهوى، والشهوات على الإنسان
وإرادته، وليست الأهواء والشهوات في حدّ ذاتها مصدراً للانحراف والسقوط في حياة
الانسان، وإنما الانحراف والسقوط يأتي من ناحية سلطان الهوى على إرادته، فإذا تمكنت
الأهواء منه، وتحكمت الشهوات عليه وخضع واستسلم لها، عند ذلك فقط يتمكن الشيطان منه،
ويتعرض الانسان للسقوط والانحراف. ولذلك فإن النهج الإِسلاميّ في التربية يعمل على
ترويض الأهواء والشهوات وتطويعها لارادة الإِنسان، وتمكين الإرادة منها، دون أن
يكافحها ويحاربها ويستأصلها ويصادرها.
والصوم نموذج واضح لهذا المنهج التربوي. والميقات هو الآخر يقع في هذا الخط التربوي،
ففي الميقات يتعرض الانسان لتصفية واسعة في (الأنا) و(الهوى)، ويمتص الميقات من نفس
الانسان سلطان هاتين الخصلتين، ويسمح له بالدخول في رحاب ضيافة الله ـ تعالى ـ بعد
أن يجرده من هذه النزعة الحيوانية التي تطغى على تصرفاته وتحكم إرادته وفعله.
والهوى عند ما يحكم الإِنسان يتحول إلى مصدر للشرّ في علاقاته وحياته الاجتماعية،
ويسلب الأمن والسلام في حياة الناس، فليس ما بين الناس من خلاف وصراع وصدام مصدره
الاختلاف في الرأي غالباً وإنما يعود السبب في نسبة كبيرة وواسعة في هذه الخلافات
إلى عامل الهوى في العلاقات الاجتماعية.
وللإِمام الخميني (قدس سره) كلمة ذات دلالة عميقة فيما يقول قدس سره: "لو أن مئة
وأربعة وعشرين ألف نبيّ عاشوا في مكان واحد لما اختلفوا فيما بينهم، لأنه لا سلطان
للهوى في نفوسهم".
فالميقات نقطة تحول وانقلاب في حياة الإِنسان، وأهم ما في هذا الانقلاب هو إضعاف
الأنا والذات، وخصال وخصائص في حياة الإِنسان. فإذا تجرد عن ذلك كان موءَهلاً
للدخول في رحاب ضيافة الله في الحج.
ومن عجب أن المذاهب الفكرية المادية تؤكد عكس ذلك تعزيز الأنا وتثبيت واعتماد عنصر
الاعتداد بالنفس، وتنمية حالة الغرور والعجب. بخلاف الإِسلام الذي يبني منهجه
التربوي على أصل مكافحة الأنا وإضعافها وتحجيمها، وتحويل الإِنسان من محور الأنا،
إلى محور حاكمية الله تعالى وسلطانه في حياته، ويدعو الإِنسان إلى التحلل من
هذاالمحور و الارتباط بالمحور الرباني والانصهار فيه (قل إن صلاتي ونسكي ومحياي
ومماتي لله رب العالمين ).
2ـ الانصهار في الجماعة:
فإذا تجرد الإِنسان عن الأنا وانسلخ عن ذاته وجد نفسه فجأة في وسط حشد بشري كبير،
لا يمتاز بعضهم عن بعض، ولا يكاد يفرق بينهم شيء، يتحرك ضمن موج بشري كبير هادر،
ينطلق من الميقات إلى الكعبة، كما تصب الأنهر في البحر من كل ميقات من هذه المواقيت
المعروفة، التي وقّتها رسول الله صلى الله عليه وآله، تجري أنهر كثيرة من الناس تصبّ
في الحرم حول الكعبة، فتتجمع هذه الأنهر حول البيت الذي رفع قواعده إبراهيم ومعه
ابنه اسماعيل عليهما السلام وفي هذا التيار البشري العظيم يتضاءل عنده الإِحساس
بالأنا، حتى لا تكاد تشعر به حواسه ومشاعره، فلا ترى في المطاف أفراداً يتحركون،
وإنما ترى كتلة بشرية واحدة من الناس تطوف حول البيت العتيق.
ولو أن الحاج الذي تجرد في الميقات عن الأنا، لم يكن يصب في المطاف في الجماعة
المؤمنة، لكان يضيع ويفقد مقومات وجوده وشخصيته، ولكنه لا يكاد يتجرد عن الأنا
ومعالمه وحدوده حتى يصبّ في الجماعة الكبيرة، كما تصبّ قطرات الماء في النهر الكبير،
ويعود في المطاف إلى لون جديد من الحياة، وإلى حياة جديدة لم يألفها من قبل بهذه
القوة والفاعلية، ولم يتذوقها بهذه الصورة تموت فيه الأنا، ويبعث الله في نفسه
الإحساس بالجماعة، وينتقل إلى طور جديد من الحياة أهم خصائصه غياب الفردية، وحضور
الجماعة ; ويتكرس هذا الإحساس لدى الانسان في المطاف وفي السعي، وفي الموقف في
عرفات، وفي الافاضة إلى المزدلفة، وفي المزدلفة، وفي منى، وفي العودة إلى الطواف
والسعي يتضاءل لدى الانسان المسلم الإحساس بالأنا، ويتأكد لديه الاحساس بالجماعة
المسلمة، وبأنه عضو من جسم واحد، وليس فرداً من مجموعة انسانية، وبأن هذه الأمة
كيان واحد ومصير واحد وما يصيبها من خير وشر يصيب الجميع، وبأنه وحده لا يستطيع أن
يتحرك إلى الله على خطى إبراهيم عليه السلام، إلاّ أن يذوب في هذا الحشد البشري
الكبير المتجه إلى الله.
إنّ الناس قبل أن يتجاوزوا الميقات إلى الحرم مجموعة من الأفراد، يتمايزون فيما
بينهم، ويتزايدون، ويتفاخرون، ويتجادلون، ويضرّ بعضهم بعضاً، ويعتدي بعضهم على بعض،
وتجمعهم المجامع من المدن والضواحي والقرى فتتجمع في هذه المجامع النزعات المتضاربة
والأهواء المتخالفة والرغبات المتضادة، فتكون الجامع البشرية ساحة للصراع والخلاف.
أمّا عند ما يتجاوزون الميقات إلى الحرم، ويصبون من خلال قنوات المواقيت التي
وقّتها رسول الله صلى الله عليه وآله إلى الحرم، فإنهم يتحولون إلى أمة واحدة،
ويتحركون باتجاه واحد ويلبّون دعوة واحدة ويلبسون زيّاً واحداً، ويطوفون حول كعبة
واحدة، ويسعون في مسار واحد ويؤدون مناسك واحدة، لا يختلفون ولا يتجادلون، ولا
يتفاخرون، ولا يتضاربون، ولا يؤذي بعضهم بعضاً، وكأنّ الحرم يصهرهم في بوتقة واحدة،
ويجعل منهم كياناً جديداً يختلف عما كانوا عليه.
الحرم الآمن:
وأبرز خصائص هذا التركيب الجديد للمجتمع البشري الذي يستحدثه الحرم في حياة الناس
هو الأمن، والاحساس بالأمن. إن هذا الأمن من خصائص ونتائج هذا التركيب البشري
الجديد الذي يجده الناس في الحرم، وهو في نفس الوقت من أسبابه وموجباته. فإن الناس
إذا شعروا بالأمن بعضهم من بعض، التقى بعضهم بعضاً دون حذر، وتعامل بعضهم من بعض،
وتلاقوا، وتآلفوا، وتعاونوا. فالأمن يعد الناس ليكونوا أمة واحدة، والأمن يعطي
للناس هذه الفرصة، التي تتطلبها عملية الانتقال من الحياة الفردية، التي يعيشها
الناس عامة إلى هذا النمط الجديد، الذي يريده الله تعالى لعباده، والذي يرسم الحرم
نموذجاً له، كما يصح العكس أيضاً، فانّ الأمن والإحساس بالأمن و النتيجة الطبيعية
لهذا اللون الجديد من الحياة الاجتماعية. فإنّ الناس عند ما يحشرون في الحرم لا
يختلفون ولا يتشاجرون ولا يتفاخرون ولا يتزايدون ولا يتضاربون.
الحرم رقعة نموذجية لساحة الحياة:
والله تعالى يريد أن يكون وجه الأرض كلّه آمنا للناس، يعيش الناس بعضهم مع بعض في
أمن ودعة وسلام لا يحنق بعضهم على بعض، ولا ينوى أحد لأحد شرا، يُؤثِر بعضهم بعضاً
على نفسه، ويحب بعضهم بعضا.
يقول تعالى في صفة المهاجرين والأنصار في الصدر الأول من هذا الدين...
﴿وَالَّذِينَ تَبَوَّؤُوا الدَّارَ وَالْإِيمَانَ مِن قَبْلِهِمْ
يُحِبُّونَ مَنْ هَاجَرَ إِلَيْهِمْ وَلَا يَجِدُونَ فِي صُدُورِهِمْ حَاجَةً
مِّمَّا أُوتُوا وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ
وَمَن يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ * وَالَّذِينَ
جَاؤُوا مِن بَعْدِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلِإِخْوَانِنَا
الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالْإِيمَانِ وَلَا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلًّا
لِّلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنَا إِنَّكَ رَؤُوفٌ رَّحِيم﴾
ولكن الناس يرفضون أن يعيشوا كما يريد الله تعالى لهم.
فجعل الله لهم من الحرم (رقعة نموذجية) للحياة الآمنة التي يريدها للناس. بدعاء
عبده وخليله إبراهيم عليه السلام:
﴿وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ اجْعَلْ هَذَا بَلَدًا آمِنًا وَارْزُقْ
أَهْلَهُ مِنَ الثَّمَرَاتِ مَنْ آمَنَ مِنْهُم بِاللّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ﴾.
هذا هو دعاء العبد الصالح إبراهيم عليه السلام: وقد استجاب الله تعالى لدعاء عبده
وخليله إبراهيم عليه السلام فقال:
﴿وَإِذْ جَعَلْنَا الْبَيْتَ مَثَابَةً لِّلنَّاسِ وَأَمْناً﴾.
والمثابة: المحل الذي يرجع إليه الناس، وقد جعل الله تعالى البيت مثابة للناس يجمع
الناس ويرجعون إليه، ويقصدونه من كل فجّ عميق، ثمّ جعله آمناً يأمن فيه الناس بعضهم
من بعض ولا يحذر فيه أحد الآخرين على نفسه; يقول تعالى:
﴿أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا جَعَلْنَا حَرَمًا آمِنًا﴾.
وجعل رقعة الحرم رقعة نموذجية لساحة الحياة كلها، كما جعل الشهر الذي يتم فيه الحج
(ذوالحجة) من الأشهر الحرم. يقول الله تعالى:
﴿هَذَا بَلَدًا آمِنًا﴾.
وحتى (الجدال )الذي ينطوي على نوع من العدوان على الآخرين يحرمه الله تعالى على
الحجاج،
﴿فَلاَ رَفَثَ وَلاَ فُسُوقَ وَلاَ جِدَالَ فِي الْحَج﴾.
فإن الجدال منفذ للعدوان بين الناس، وكثير من العدوان يبدأ بين الناس من الجدال
الذي يسعى فيه كل من الطرفين المتجادلين إلى إثبات الذات وتجاوز الطرف الآخر.
والأمن في الحرم أمن شامل، يشمل حتى الحيوان والنبات، فلا يجوز الصيد في الحرم، ولا
يجوز قطع النباتات والأشجار في منطقة الحرم إلاّ في حالات خاصة يذكرها الفقهاء،
وحرمة الصيد وقطع النباتات لا تخص حالة الاحرام، فإنهما تحرمان على المُحرم والمُحل
معاً في منطقة الاحرام، والحرم في الاسلام عينة صغيرة لساحة الحياة كلها، والذي يجب
أن يعرف رأي الاسلام في الحياة ; فإنّ هذه العينة الصغيرة والرقعة المحدودة من
الأرض تجسد تخطيط الاسلام لساحة الحياة الواسعة، فإنّ العلاقة فيما بين الناس
والارتباط والتلاقي هو الافراز الطبيعي للحياة الاجتماعية، فمن أجل هذه العلاقة
واللقاء والتلاقي خلق الله تعالى الانسان اجتماعياً وأعدّه للحياة الاجتماعية، ولا
يبلغ الانسان الكمال والنضج الذي أعده الله تعالى له إلاّ في وسط هذه العلاقات
واللقاءات والتلاقي في الحياة الاجتماعية، فلو أنّ انساناً اعتزل الحياة وعاش وحده
في جزيرة قاصية لم يبلغ بالتأكيد النضج والكمال الذي أعدّه الله تعالى له، وهذه
اللقاءات والعلاقات إنما تثمر وتعطي وتنتج في حياة الانسان، فيما إذا توفر له الجوّ
السليم، الأمن والسلام، أما عند ما تكون هذه العلاقة في جوّ من الريبة والحذر،
والخوف والقلق والعدوان والكيد والمكر، فإنّ هذه العلاقة والارتباط فيما بين الناس
لا تكاد تثمر هذه الثمرة، ولا تكاد تبلغ بالانسان النضج والكمال، الذي يطلبه
الانسان في الحياة الاجتماعية، من خلال هذه العلاقات واللقاءات والارتباطات، بل قد
تعود العلاقة في مثل هذا الجوّ إلى نتائج سلبية في حياة الانسان.
فالاسلام يخطط بناءً على هذا الفهم لضرورة العلاقة وحدودها في حياة الانسان، ليجعل
العلاقة فيما بين الناس في الحياة الاجتماعية في جوّ آمن وسليم، فيأمن الانسان
الآخرين على نفسه في حضوره وغيبته، وفي نفسه، وعرضه، وماله، ويأمن على نفسه من
ألسنة الآخرين وأيديهم، ومن مكرهم وكيدهم وعدوانهم، فيعيش في جوّ من الأمن الشامل،
ويبني علاقاته كلها مع الآخرين في هذا الجوّ الآمن، في السراء والضراء، وفي التجارة
والبيع، وفي الزواج والعلاقات الاجتماعية، وفي علاقاته مع أصدقائه وزملائه، وفي
علاقاته مع أعضاء أسرته، وفي ارتباطه بمن هو فوقه ومن هو دونه، وحينما يأخذ وحينما
يعطي، وحينما يحتاج إلى الآخرين وحينما يحتاج إليه الآخرون...
الاسلام يخطّط ويعمل ; ليجعل العلاقة فيما بين الناس في الحياة الاجتماعية على كل
الأصعدة في جوّ من الأمن والسلام، لتعطي هذه العلاقة الثمرات المطلوبة منها في
الحياة الاجتماعية، ويخطط الاسلام ويعمل ليجعل الحياة الاجتماعية حياة آمنة مطمئنة
ليتعايش الناس فيها بسلام.
والحرم عينة صغيرة نموذجية في الحياة الآمنة والمطمئنة التي يطلبها الاسلام،
والاحرام عينة أخرى نموذجية للحالة التي يطلبها الاسلام للناس في الحياة الاجتماعية،
في علاقة الناس بعضهم ببعض، ويعود الحجاج من الاحرام والحرم إلى واقع حياتهم
ليأخذوا معهم النموذج الإلهي للحياة وللعلاقات الاجتماعية، ويعيشوا حياتهم بها.
3ـ الانتقال إلى المحور الإِلهي:
وهذه هي المرحلة الثالثة، من رحلة الحج الابراهيمي.
في المرحلة الأولى يتخلص الانسان من فرديته وأنانيته وأعراض هذه الأنانية.
وفي المرحلة الثانية يصبّ في الحرم في الجماعة المسلمة، وينصهر في هذه الجماعة (الأمّة).
وفي المرحلة الثالثة وهي الغاية الأخيرة في هذه الرحلة تصبّ هذه الجماعة في المطاف
حول الكعبة.
والكعبة في لغة الحج الرمزية رمز للمحورية الالهية في حياة الانسان. وإذا استطاع
الانسان في المرحلة الأولى من هذه الرحلة، أن يتخلص من جاذبية محور الأنانية في
حياته، فإنّ المحور الالهي يجذبه جذباً قوياً بطبيعة الحال.
وانجذاب الانسان إلى هذا المحور، أمر طبيعي كامن في عمق فطرة الإِنسان، والأنا هو
الذي يحجز الإِنسان عن هذه الجاذبية، فإذا تحرر عن حاجز الأنا فانّ الجاذبية
الإِلهية تجذبه. والطواف بعد الإِحرام رمز لذلك، فإنّ الاحرام من الميقات يرمز
للتحرر من الأنا، والطواف حول البيت يرمز إلى الانجذاب إلى الله تعالى، والحركة حول
المحور الالهي في الحياة.
وعليه فإنّ حركة الطواف نقلة في حياة الانسان من الأنا إلى الله تعالى، إنه تعبير
رمزي عن التوحيد في حياة الانسان المسلم، إلاّ أنّ هذا التوحيد ليس هو التوحيد
النظري، الذي يعرفه الناس، وإنما هو توحيد العبودية لله، وتوحيد الحبّ والولاء
والاهتمام، كما ترسمه الآية المباركة من سورة الأنعام:
﴿قُلْ إِنَّ صَلاَتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلّهِ رَبِّ
الْعَالَمِينَ *لاَ شَرِيكَ لَهُ وَبِذَلِكَ أُمِرْتُ وَأَنَاْ أَوَّلُ
الْمُسْلِمِينَ﴾.
إنّ الطواف يرمز إلى الحركة الانسانية الدائمة والمستمرة حول هذا المحور الالهي في
التاريخ، وإننا لننظر من بعيد إلى حركة التاريخ، فنرى أنّ حركة التاريخ تجسد (التوحيد)
في حياة الانسان، وأنّ الأنبياء عليهم السلام وأممهم ـ إلاّ في فترات قصيرة جدّاً ـ
يجسدون هذه الحركة البشرية الدائمة حول محور الألوهية، ولكن عندما ندخل نحن ضمن هذه
الحركة فسوف نواجه ألواناً من المضايقات والأذى والمشاكسات من الهوى في داخل أنفسنا،
ومن الطاغوت في المجتمع، ومن شياطين الجنّ والإِنس الذين يضايقون الناس في حركتهم
إلى الله.
وحركة الطواف حول الكعبة تجسّد هذا الواقع بالدقة ; فإذا نظرت من الأعلى إلى المطاف
ترى حركة دائرة لجماهير الطائفين بصورة مستمرة، وكأنّ أرض المسجد الحرام تطوف بهم
حول البيت في حركة منظمة وهادئة، أما إذا دخلت بنفسك في المطاف التقيت بالوجه الآخر
لهذه الحركة الانسانية حول المحور الالهي، من المعاناة ومواجهة العقبات والمضايقات،
وهو يختلف اختلافاً كبيراً عن الوجه الأول الهادئ والمريح.
لماذا عبر الانصهار في الجماعة؟
في هذه المرحلة نحن نفهم المنطلق والغاية في حركة الانسان بصورة دقيقة، فالمنطلق
الذي ينطلق منه الانسان هو تجاوز الأنا والذات ويعبر الاحرام في الميقات عن هذا
المنطلق، والغاية هي الحركة إلى الله وتوحيده تعالى، ويرمز الطواف إلى هذه الغاية،
ولكن الانسان في الحج يصل إلى هذه الغاية عبر الانصهار في الجماعة المسلمة، ومن دون
الانصار في الأمة المسلمة لا يمكن الوصول إلى هذه الغاية.
إنّ التخطيط الاسلامي للحج يؤكد على حضور الأمة المسلمة وتواجدها في موسم الحج من
كل فج عميق،
﴿وَأَذِّن فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ يَأْتُوكَ رِجَالًا وَعَلَى كُلِّ
ضَامِرٍ يَأْتِينَ مِن كُلِّ فَجٍّ عَمِيق﴾.
إنّ هذا الأذان والإعلان والدعوة الإِلهية العامة للحج، من قبل الله ورسوله،
والاستجابة من قبل الناس من كل فج عميق، يشكل بالتأكيد بعداً هاماً من أبعاد الحج.
وعند ما نستعرض آيات الحج، والكعبة والبيت، في القرآن منذ أن رفع إبراهيم وإسماعيل
القواعد من البيت، نجد اهتماماً كبيراً بحضور الناس في هذا البيت، وفي هذا الموسم،
وأبلغ ما في ذلك تعبير القرآن عن بيت الله بأنه بيت الناس
﴿إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ لَلَّذِي بِبَكَّةَ مُبَارَكًا
وَهُدًى لِّلْعَالَمِينَ * فِيهِ آيَاتٌ بَيِّنَاتٌ مَّقَامُ إِبْرَاهِيمَ وَمَن
دَخَلَهُ كَانَ آمِنًا وَلِلّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ
إِلَيْهِ سَبِيلاً﴾.
ومن عجب أنّ الله تعالى يخص الناس ـ عباده ـ بأول بيت وأشرف بيت ويعلن عن أنه بيت
للناس ثم يدعو الناس إليه
﴿وَلِلّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْت﴾.
وفي دعاء إبراهيم عليه السلام نجد أنّ إبراهيم خليل الرحمن، عند ما أودع أهله
وذريته بهذا الوادي القاحل غير ذي زرع، دعا الله تعالى أن يجعل أفئدة من الناس تهوي
إليهم
﴿فَاجْعَلْ أَفْئِدَةً مِّنَ النَّاسِ تَهْوِي إِلَيْهِمْ وَارْزُقْهُم
مِّنَ الثَّمَرَاتِ لَعَلَّهُمْ يَشْكُرُون﴾.
وأيضاً نجد في سورة البقرة
﴿وَإِذْ جَعَلْنَا الْبَيْتَ مَثَابَةً لِّلنَّاسِ وَأَمْنا﴾.
فالبيت مثابة للناس يجتمع الناس حوله، ويثوب إليه الناس، ويجتمع الناس من كل حدب
وصوب، ثم إننا في سورة المائدة نقرأ
﴿جَعَلَ اللّهُ الْكَعْبَةَ الْبَيْتَ الْحَرَامَ قِيَامًا لِّلنَّاس﴾.
فالكعبة تقوم حياة الناس، وتقوم حياة الناس بها، وعند الإفاضة يأمر الله تعالى
عباده أن لا ينفرد بعضهم عن بعض في الإِفاضة، وإنما يفيض كلُّ منهم حيث أفاض الناس
﴿ثُمَّ أَفِيضُواْ مِنْ حَيْثُ أَفَاضَ النَّاسُ وَاسْتَغْفِرُواْ اللّه﴾.
إذن حضور الناس حول البيت وتواجدهم في الموسم، وانصهار الفرد داخل البيت والحرم في
الناس شييء أساس في الحج، في طريق حركة الانسان إلى الله تعالى.
ونتساءل بعد ذلك، لماذا؟
وهو سؤال مهم يرتبط بسر من أسرار هذا الدين، فإن هذا الدين يحرك الانسان إلى الله
تعالى ولكن من خلال الحضور في وسط الناس فالحج حركة إلى الله، ولكن من خلال
الانصهار في الناس، والصلاة معراج كل مؤمن، ولكن من خلال الجماعة، وحتى الاعتكاف
الذي هو نحو من الاعتزال عن الناس يتم في المسجد الحرام ومسجد النبي(صلى الله عليه
وآله) والمسجد الجامع في الكوفة، والمسجد الجامع في أي بلد، وليس في أي مسجد معزول
متروك، فنتساءل مرة أخرى لماذا لا تتم حركة الانسان إلى الله في الحج إلاّ من خلال
الانصهار في الناس ومن خلال الحضور في وسط الناس؟.
والجواب:
إنّ من غير الممكن أن يتجاوز الإِنسان الأنا في عزلة من الناس، وهو شرط أساس في
الحركة إلى الله تعالى.والانسان قد يتصور إذا اعتزل الناس، وابتعد عن الحياة
الاجتماعية، يتحرر من الأنا والهوى والشهوات والرغبات، ولكنه يخطىء كثيراً، فإنّ
نزعات الأنانية تبقى مطوية في خبايا نفسه، وهو غير شاعر بها، فإذا دخل الحياة
الاجتماعية واحتكَّ بالناس، برزت هذه النزعات المخبوءة، على السطح الظاهر من شخصيته،
ولكن يمكن اجتثاث هذه النزعات والقضاء عليها إلاّ في وسط الحياة الاجتماعية.
إنّ هذه النزعات لا يمكن استئصالها إلاّ من خلال صراع مرير مع النفس في وسط الحياة
الاجتماعية، ولا شك أن هذه النزعات، تختفي في حياة العزلة والرهبانية، إلاّ أنّها
تبقى كامنة ومختفية في النفس، فإذا صادفت فرصة مناسبة وجوّاً مناسباً تبرز مرة
واحدة.
ولذلك لا بدّ من هذا الوسط الاجتماعي والحياة الاجتماعية، والحضور في وسط المغريات
والمثيرات ليستطيع الإِنسان أن يتجاوز الأنا بصورة كاملة.
وحقيقة أخرى لا تقل أهمية عن الأولى: أنّ حركة الانسان إلى الله تعالى حركة شاقة
عسيرة وصبعة، ولا يستطيع الإِنسان أن يطوي هذا الطريق وحده، فإذا حضر نفسه في
الجماعة المؤمنة، وانصهر في وسط الأمة هان عليه السير، واستطاع أن يطوي معهم هذا
الطريق بكفاءة وجدارة ويسر.
لذلك نقول في الصلاة، ونكرر في كل يوم عشر مرات
﴿إِيَّاكَ نَعْبُدُ وإِيَّاكَ نَسْتَعِين﴾
بصيغة الجمع، وليس بصيغة المتكلم الوحده، فإنّ الطريق إلى الله طريق صعب، وليس من
شك أن سلوك هذا الطريق، وطي هذه المسافة مع الجماعة المؤمنة آمن وأسلم وأيسر.
ولذلك نجد أنّ الطريق إلى الله ـ تعالى ـ يتمّ في الاسلام، عبر الحضور في الجماعة
المسلمة والانصهار فيها، وليس بمعزل عنها.
الأبعاد الثلاثة للحج:
تلك هي المراحل الثلاث التي يرسمها الحج بلغته الرمزية الخاصة:
1ـ مرحلة تجاوز الذات.
2ـ مرحلة الانصهار في الجماعة.
3ـ مرحلة الحركة إلى الله.
وهذه المراحل الثلاث هي الأطراف الثلاثة في علاقات الانسان ; فإنّ للانسان علاقة
بالله تعالى، وعلاقة بالمجتمع والكون، وعلاقة بنفسه.
وهذه العلاقات منظورة جميعاً في الحج، ومن عجب أن تكون علاقة الانسان بالجماعة
وانصهاره فيها، هو الجسر الذي يربط الانسان بالله تعالى، وليس هو الحاجز والحاجب
والعقبة كما في التصورات الرهبانية 1.
1-محمّد مهدي الآصفي/
مجلة ميقات الحج.
|