علاج مشاكل الأمة
ترى هل لهذا التمزق الذي تعيشه الامة الاسلامية من علاج ، واين القرآن وبصائره
الرشيدة من هذا الواقع المرير الذي يعيشه ابناء القرآن ، وتعيشه تلك الامة التي
صنعها الوحي ، وصاغها الرسول صلى الله عليه وآله، ورعاها الائمة الهداة عليهم
السلام؟ واذا كانت هذه الامة هي خير امة اخرجت للناس، فهل من الخير ان يتقاتل
ابناؤها ويتمزقوا ؟
اين نحن من الأمة القرآنية:
من المعروف ان الخير يعني السلام والامن والنمو الاقتصادي والديني، اما التقاتل
والفقر؛ والمسكنة والتمزق والصراعات.. فان كل ذلك ليس من الخير في شئ. فلنتدارس هذا
الامر؛ فالقرآن يبشرنا بخير امة اخرجت للناس ، وهذه الامة التي نعرفها ونسمع
انباءها أبعد ما تكون عن المثل العليا التي بشّر بها القرآن الكريم، اذ يقول: ﴿
وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى وَلا تَعَاوَنُوا عَلَى الإِثْمِ
وَالْعُدْوَانِ﴾
(المائدة/2).
فاذا كانت هناك مسافة شاسعة تفصل بين هذه الامة ، وبين تلك الامة التي بشر بها
القرآن، فكيف نستطيع ان نلغي هذه المسافة التي تفصل بين القرآن وواقع المسلمين ؟
الاستجابة لنداء الحج:
ونحن في كل عام نستقبل ايام الحج، حيث يتوافد الملاييين من المسلمين من جميع اقطار
الارض على بيت الله الحرام ليستجيبوا لنداء ابراهيم الخليل عليه السلام، حيث امره
الله تعالى ان يؤذن في الناس بالحج ليبلغ الخالق نداءه الى اصلاب الرجال ، وارحام
النساء الى يوم القيامة. ونحن الآن اذا نظرنا بعيـن البصيرة نجد ان الملايين من
البشر يتهافتون على هذه البقعة المباركة وهم يرددون نداء التلبية الذي هو استجابة
لنداء النبي ابراهيم، الذي يقول عنه عز وجل: ﴿
وَأَذِّن فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ يَأْتُوكَ رِجَالاً وَعَلَى كُلِّ ضَامِرٍ
يَأْتِينَ مِن كُلِّ فَجٍّ عَمِيقٍ
﴾
(الحج/27) ؛ اي اذن لجميع الناس بالحج، لان هذا البيت هو بيت الناس جميعا. فهو اول
بيت وضع للناس، كل الناس.
ومعنى قوله تعالى: ﴿
يَأْتُوكَ رِجَالاً
﴾
؛ اي مشاة. فرغم ان الاراضي هناك قفراء، ذات جبال وعرة ، ومسالك صعبة.. ولكننا
نرى بين الشعاب المنبثة، بين تلك الجبال اناساً يأتون مشاة او على الابل التي تغدو
ضامرة وهزيلة بسبب وعورة الطرق ، والمسافات الشاسعة. وهذا من آلاء الله وآياته، اذ
جعل تـلك القـلوب تهفو الى الحج.
المنفعة الكبرى للحج:
ترى لماذا جعل الله تعالى البيت الحرام مثابة للناس وامنا ، ولماذا اذن ابراهيم
الخليل بالحج في الناس ؟ وهل هناك منفعة اعظم من ان يلملم المسلمون اطارفهم ،
ويجمعوا شتاتهم ، ويغيروا واقعهم ؟
ان هذه المنفعة هي اصل المنافع. فلقد جعل الله سبحانه الحج في وقت واحد، كما يقول
جل شأنه: ﴿
الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَعْلُومَاتٌ فَمَن فَرَضَ فِيهِنَّ الْحَجَّ فَـلا رَفَثَ وَلا
فُسُـوقَ وَلاَ جِدَالَ فِي الْحَجِّ
﴾
(البقرة/197)
ونحن اذا قرأنا تروك الاحرام، نجد ان اهمها وابرزها تلك التي تخدم وحدة المسلمين.
فتروك الاحرام الاصلية اربعة، هي: التفث اي الممارسة الجنسية بكل مقدماتها ،
والجدال ، والفسوق ، والصيد كما جاء في آيات اخرى. اما بقية تروك الاحرام، فانها
تنبثق كلها من تلك التروك الرئيسية؛ منها ترك الزينة. ففي الحج يستحب للانسان ان
يكون اشعث اغبر.
كما حرم تعالى الفسوق ؛ اي ان يتفاخر انسان على آخر، ذلك لان الحج يجب ان يكون
موضعاً يسقط فيه التفاخر والتعالي. فقد جاء في الحديث الشريف: " ليس لله منسك أحب
إليه من السعي وذلك أنه يذلُّ فيه الجبارين".
ففي هذه المسيرة تسقط الاعتبارات والحواجز والانانيات.. لينعم الجميع بخيرات الحج.
وفي سورة المائدة وعندما يحدثنا القرآن عن شعائر من الهدي وعن القلائد، فانه يقول: ﴿
وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى وَلا تَعَاوَنُوا عَلَى الإِثْمِ
وَالْعُدْوَانِ﴾.
وبناء على ذلك فان الهدف من الحج ان نوحد طاقاتنا ، واذا ما وجدنا اليوم هذا التفتت
، واذا رأينا المسلم يقتل اخاه المسلم، فاننا سنجد علاج ذلك في الحج الذي هو المكان
الذي يجب ان يتوافد اليه المسلمون جميعا ، ويوحدوا انفسهم ، ويلغوا الحواجز ليشهدوا
منافع لهم. ومن اعظم هذه المنافع، منفعة الوحدة والتفاهم والتحبب والتعاون على البر
والتقوى وعدم التعاون على الاثم والعدوان.
الحج.. علاج مشاكل الأمة:
ترى كيف نستطيع ان نستخلص هذه الفائدة من الحج ؟
للاجابة على هذا السؤال الهام، نقول: اننا وبسبب التخلف ، والافكار التي يبثها
الطغاة بيننا، لم نعرف الدين حق معرفته. في حين انه نظام الهي للبشرية يعالج كل
مشاكلها. فهو ليس مجرد تجربة بين الانسان وربه كما يقول بذلك بعض الفلاسفة الغربيين
الذيـن يرون ان الديـن ما هو الاعلاقة قلبية بين الانسان وخالقه. وبالفعل فقد اثرت
هذه النظرة علينا فانفصلت جميع مجالات حياتنا عن الدين، وخصوصاً المجال السياسي
والاقتصادي والاجتماعي.. فترى الواحد منا يرتكب الذنوب من مثل الكذب، في حين انه
يستعظم على الآخرين ان يكذبوا عليه.
وهكذا فقد اصبح الدين العوبة في ايدينا ، فلم يعد ينفعنا. في حين ان الدين الذي امر
الله به هو الدين الذي قال عنه نبينا الاكرم صلى الله عليـه وآلـه: " كلكم راع
وكلكم مسؤول عن رعيته" والذي قال عنـه: " من اصبح ولا يهتم بامور المسلمين فليس
بمسلم" ، فالاحداث التي تجري في عالمنا الاسلامي يجب ان نهتم بها، وكأنها تقع في
بلادنا. فعلينا ان نهتم بسائر المسلمين كما نهتم بعوائلنا ، ولنعتبر المجتمع
الاسلامي الكبير عائلتنا، لان الدين يوصينا ان نوقر كبارنا ، ونرحم صغارنا.
وللاسف فان هذا الدين صار اليوم مهجوراً بيننا، وانا لا اخفي خشيتي من هذا الواقع
المرير الذي نعيشه. ولذلك فان علينا ان نهتم جميعا بامور المسلمين، وان نبادر الى
علاج المشاكل التي نعاني منها. فانا لست متأسفـاً على الواقع الذي نعيشه، بقدر
خشيتي من ان يكون دليلاً على غضب الله سبحانه وتعالى علينا. علمـاً ان غضبه - جلت
قدرته- لا يقتصر على الدينا فحسب، واننا سوف لا نتخلص منه بالموت، بل ان هناك
حسابـاً عسيراً ورائنا. فكف يمكن لنا ان نجيب ربنا بهذه التبريرات العجيبة الداعية
الى الدعة والراحة ؟
انه تعالى شديد الحساب، وكتابه لايغادر صغيرة ولا كبيرة إلاّ احصاها، وإن كان ذنبنا
يتمثل في ترك ركعتين من الصلاة؛ فكيف اذا كان هذا الذنب يتمثل في ترك نصر
المظلومين؟
الميزان القرآني:
فلنزن انفسنا بميزان كتاب الله الذي انزل فرقانا ، ولنعرض انفسنا عليه. فهو كتاب لا
يأتيه الباطل من بين يديه ولامن خلفه ، وهو نور وبصائر. فلنرجع اليه فهو العلاج
الوحيد لمشاكلنا واوضاعنا المتردية، لا أن نعود الى مقاييس اخرى ، ولا ان نستند الى
اهوائنا وافكارنا.
وهكذا فاننا اذا نظرنا الى الدين كمنهاج حياة وبصيرة ، واخذناه من القرآن واحاديث
النبي وأهل بيته عليهم السلام وكلمات فقهائنا ، لاختلفت اوضاعنا ، ولاختلف حجنا ،
ولما اصبح هذا الحج ماديا ينبغي من ورائه شراء السلع واقتناء الهدايا دون ان نراعي
الحرمة العظيمة لهذه الشعيرة الالهية الكبرى ، ولاتشغلنا عن تزكية انفسنا ،
واستغلال شعائر الحج في تهذيب اخلاقنا ، ولأبدينا اهتمامنا بامور المسلمين ،
وتذاكرنا في احوالهم ، وسأل بعضنا البعض الاحداث التي تجري في بلاده وسبل معالجتها
، واسلوب النهوض بالمسلمين..
إلاّ اننا - للاسف الشديد - نتصور ان الدين ما هو إلاّ طقوس وشعائـر، علينا ان
نؤديها دون ان تؤثر فينـا ، وتغير سلوكنا. في حين ان الدين هو صبغة الله؛ اي ان
حياتنا يجب ان تصطبغ بالتوحيد بجميع ابعاده ، وبصبغة الايمـان. وهذا هو الدين الحق
، لا الدين الذي ننظر اليه نظرة تجزيئية ، ونفصل جوانبه عـن بـعضها.
وبناء على ذلك فان هذه الأمة يجب ان تتحول الى تلك الأمة التي بشّر الله تعالى بها
عباده قائلاً: ﴿
كُنْتُمْ خَيْرَ اُمَّةٍ اُخْرِجَتْ لِلْنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ
وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلَوْ ءَامَنَ أَهْلُ
الْكِتَابِ لَكَانَ خَيْـراً لَهُمْ مِنْهُمُ الْمُؤْمِنُـونَ وَأَكْثَرَهُمُ
الْفَاسِقُـونَ
﴾
(آل عمران/110)، والسبب في تفضيل هذه الامة على غيرها، هو انها تأمر بالمعروف ،
وتنهى عن المنكر.
فهو - جل وعلا - لايجعل مقياس التفضيل الصلاة - مثلاً -، بل ان الشعور الجماعي هو
الذي من شأنه ان يجعل المسلمين خير أمة اخرجت للناس، لا أن يأتي احدنا الى الحج
ويده ملطخة بدماء اخوانه المسلمين ، وقلبه مشحون بالاحقاد والعداوات والبغضاء..
فمن المعلوم ان الله عز وجل لا يمكن ان يتقبل حج مثل هذا الانسان الذي لم يلتزم
بالشرط الاكثر اهمية في الحج، ألا وهو الاتحاد ، والتكاتف ، والاهتمام بأمور
المسلمين ، والتعاطف ، والتكافـل معهم1.
1- الحج ضيافة الله / محمد تقي مدرسي.
|