الحج وايجاد الانسان
اعلم ان الحج اعظم اركان الدين، و عمدة ما يقرب العبد الى رب العالمين، و هو اهم
التكاليف الالهية و اثقلها، و اصعب العبادات البدنية و افضلها، و اعظم بعبادة ينعدم
بفقدها الدين، و يساوى تاركها اليهود و النصارى في الخسران المبين. و الاخبار التي
وردت في فضيلته و في ذم تاركه كثيرة مذكورة في كتب الاخبار، و الاحكام و الشرائط
الظاهرة له على عهدة الفقهاء، فلنشر الى الاسرار الخفية، و الاعمال الدقيقة، و
الآداب الباطنة، التي يبحث عنها ارباب القلوب:
الغرض من ايجاد الانسان
اعلم ان الغرض الاصلي من ايجاد الانسان معرفة الله و الوصول الى حبه و الانس به، و
الوصول اليه بالحب و الانس يتوقف على صفاء النفس و تجردها. فكلما صارت النفس اصفى و
اشد تجردا، كان انسها و حبها بالله اشد و اكثر. و صفاء النفس و تجردها موقوف على
التنزه عن الشهوات، و الكف عن اللذات، و الانقطاع عن الحطام الدنيوية، و تحريك
الجوارح و ايقاعها لاجله في الاعمال الشاقة، و التجرد لذكره و توجيه القلب اليه. و
لذلك شرعت العبادات المشتملة على هذه الامور، اذ بعضها انفاق المال و بذله، الموجب
للانقطاع عن الحطام الدنية، كالزكاة و الخمس و الصدقات، و بعضها الكف عن الشهوات و
اللذات، كالصوم، و بعضها التجرد لذكر الله و توجيه القلب اليه، و ارتكاب تحريك
الاعضاء و تعبها، كالصلاة، و الحج من بينها مشتمل على جميع هذه الامور مع الزيادة،
اذ فيه هجران اوطان، و اتعاب ابدان، و انفاق اموال، و انقطاع آمال، و تحمل مشاق، و
تجديد ميثاق، و حضور مشاعر، و شهود شعائر، و يتحقق في اعماله التجرد لذكر الله، و
الاقبال عليه بضروب الطاعات و العبادات، مع كون اعماله امورا لا تانس بها النفوس، و
لا تهتدي الى معانيها العقول، كرمى الجمار بالاحجار، و التردد بين الصفا و المروة
على سبيل التكرار، اذ بمثل هذه الاعمال يظهر كمال الرق و العبودية، فان سائر
العبادات اعمال و افعال يظهر وجهها للعقل، فللنفس اليها ميل، و للطبع بها انس.
و اما بعض اعمال الحج، كرمى الجمار و ترددات السعى، فلا حظ للنفس و لا انس للطبع
فيها، و لا اهتداء للعقل الى معانيها، فلا يكون الاقدام عليها الا لمجرد الامر و
قصد الامتثال له من حيث انه امر واجب الاتباع، ففيها عزل العقل عن تصرفه، و صرف
النفس و الطبع عن محل انسه، فان كل ما ادرك العقل معناه مال الطبع اليه ميلا ما،
فيكون ذلك الميل معينا للامتثال، فلا يظهر به كمال الرق و الانقياد، و لذلك قال
النبي صلى الله عليه واله وسلم في الحج على الخصوص: "لبيك بحجة حقا و تعبدا
ورقا! "، و لم يقل ذلك في غيره من العبادات. فمثل هذه العبادة-اي ما لم يهتد
العقل الى معناه و وجهه-ابلغ انواع العبادات في تزكية النفوس و صرفها عن مقتضى
الطبع و البغي الى الاسترقاق، فتعجب بعض الناس من هذه الافعال العجيبة مصدره الجهل
باسرار التعبدات، و هذا هو السر في وضع الحج، مع دلالة كل عمل من اعماله على بعض
احوال الآخرة، او في بعض اسرار اخر-كما ياتي-ما فيه من اجتماع اهل العالم في موضع
تكرر فيه نزول الوحي، و هبوط جبرئيل و غيره من الملائكة المقربين على رسوله المكرم،
و من قبله على خليله المعظم عليهما افضل الصلاة، بل لا يزال مرجعا و منزلا لجميع
الانبياء، من آدم الى خاتم، و مهبطا للوحى، و محلا لنزول طوائف الملائكة.
و قد تولد فيه سيد الرسل صلى الله عليه واله وسلم و توطات اكثر مواضعه قدمه الشريفة
و اقدام سائر الانبياء، و لذلك سمى ب (البيت العتيق)، و قد شرفه الله تعالى
بالاضافة الى نفسه، و نصبه مقصدا لعباده، و جعل ما حواليه حرما لبيته، و تفخيما
لامره، و جعل عرفات كالميدان على فناء حرمه، و اكد حرمة الموضع بتحريم صيده و قطع
شجره، و وضعه على مثال حضرة الملوك، فقصده الزوار من كل فج عميق، و من كل اوب سحيق،
شعثاء غبراء، متواضعين لرب البيت، و مستكنين له، خضوعا لجلاله، و استكانة لعزته و
عظمته، مع الاعتراف بتنزهه عن ان يحومه بيت او يكتنفه بلد.
و لا ريب في ان الاجتماع في مثل هذا الموضع، مع ما فيه من حصول المؤالفة و
المصاحبة، و مجاورة الابدال و الاوتاد و الاخيار المجتمعين من اقطار البلاد، و
تظاهر الهمم، و تعاون النفوس على التضرع و الابتهال و الدعاء الموجب لسرعة الاجابة،
بذكر النبى صلى الله عليه واله وسلم و اجلاله، و نزول الوحي عليه، و غاية سعيه و
اهتمامه في اعلاء كلمة الله و نشر احكام دينه، فتحصل الرقة للقلب، و الصفاء للنفس.
ثم لكون الحج اعظم التكليفات لهذه الامة، جعل بمنزلة الرهبانية في الملل السالفة،
فان الامم الماضية اذا ارادوا العمل لا صعب التكليف و اشقها على النفس، انفردوا عن
الخلق، و انحازوا الى قلل الجبال، و آثروا التوحش عن الخلق بطلب الانس بالله، و
التجرد له في جميع الحركات و السكنات، فتركوا اللذات الحاضرة، و الزموا انفسهم
الرياضات الشاقة، طمعا فى الآخرة، و قد اثنى الله عليهم في كتابه، و قال:
﴿ذَلِكَ بِأَنَّ مِنْهُمْ قِسِّيسِينَ وَرُهْبَانًا وَأَنَّهُمْ لاَ
يَسْتَكْبِرُونَ﴾.
و قال تعالى:
﴿وَرَهْبَانِيَّةً ابْتَدَعُوهَا مَا كَتَبْنَاهَا عَلَيْهِمْ إِلَّا
ابْتِغَاء رِضْوَانِ اللَّه﴾.
و لما اندرس ذلك، و اقبل الخلق على اتباع الشهوات، و هجروا التجرد لعبادة الله
تعالى، و فروا عنها، بعث الله تعالى من سرة البطحاء محمدا صلى الله عليه واله وسلم،
لاحياء طريق الآخرة، و تجديد سنة المرسلين في سلوكها، فساله اهل الملل من الرهبانية
و السياحة في دينه، فقال صلى الله عليه واله وسلم : "ابدلنا بالرهبانية الجهاد و
التكبير على كل شرف-يعني الحج-، و ابدلنا بالسياحة الصوم". فانعم الله على هذه
الامة، بان جعل الحج رهبانية لهم، فهو بازاء اعظم التكاليف و الطاعات في الملل
السابقة1.
1-جامع السعادات /
العلامة النراقي.
|