رجوع الى القائمة اضاءات نورانية  

اختبار الخلق بالكعبة المقدّسة


في الخطبة القاصعة من نهج البلاغة، قال الإمام عليّ عليه السلام:.. ولكنّ الله - سبحانه - أراد أن يكون الاتّباع لرسله، والتّصديق بكتبه، والخشوع لوجهه، والاستكانة لأمره، والاستسلام لطاعته، أموراً له خاصّةً لا تشوبُها من غيرها شائبة. وكلّما كانت البلوى والاختبار أعظم، كانت المثوبة والجزاء أجزل.

ألا ترون أنّ الله - سبحانه - اختبر الأوّلين من لدن آدم - صلوات الله عليه - إلى الآخرين من هذا العالم; بأحجار لاتضرّ ولا تنفف ولاتبصر ولاتسمف فجعلها بيته الحرام (الذي جعله للنّاس قياماً). ثم وضعه بأوعر بقاع الأرض حجراً، وأقلّ نتائق الدنيا مدراً، وأضيق بطون الاودية قطراً. بين جبال خشنة، ورمال دَمِثَة، وعيون وشلة، وقرًى منقطعة، لايزكو بها خفٌ ولا حافر ولا ظلف. ثم أمر آدم عليه السلام.

وولده أن يثنوا أعطافهم نحوه، فصار مثابة لمنتجع أسفارهم، وغاية لملقى رحالهم، تهوي إليه ثمار الإفئدة من مفاوز قفار سحيقة، ومهاوي فجاج عميقة، وجزائر بحار منقطعة، حتّى يهزّوا مناكبهم ذللا يُهلّلون لله حوله، ويرملون على أقدامهم شُعثاً غُبراً له، قد نبذوا السّرابيل وراء ظهورهم، وشوّهوا بإعفاء الشعور محاسن خلقهم، ابتلاءً عظيماً وامتحاناً شديداً، واختباراً مبيناً، وتمحيصاً بليغاً، جعله الله سبباً لرحمته، ووصلة الى جنّته. ولو أراد - سبحانه - أن يضع بيته الحرام، ومشاعره العظام، بين جنّات وأنهار، وسهل وقرار جمّ الاشجار، داني الثمار، ملتفّ البنى، متّصل القرى، بين بُرّة سمراء، وروضة خضراء، وأرياف محدقة، وعراص مغدقة، ورياض ناضرة، وطرق عامرة، لكان قد صغر قدر الجزاء على حسب ضعف البلاء. ولو كان الإساس المحمول عليها، والاحجار المرفوع بها، بين زمرّدة خضراء، وياقوتة حمراء، ونور وضياء، لخفّف ذلك مصارعة الشك في الصدور، ولوضع مجاهدة إبليس عن القلوب، ولنفى معتلج الريب من النّاس، ولكن الله يختبر عباده بأنواع الشدائد، ويتعبّدهم بأنواع المجاهد، ويبتليهم بضروب المكاره، إخراجاً للتكبر من قلوبهم، وإسكاناً للتذلّل في نفوسهم، وليجعل ذلك أبواباً فُتُحاً إلى فضله، وأسباباً ذُلُلا لعفوه.

الامام الصادق عليه السلام سئل عليه السلام عن علّة الحج، فقال: إنّ الله خلق الخلق، وأمرهم بما يكون من أمر الطاعة في الدين، ومصلحتهم من أمر دنياهم، فجعل فيه الاجتماع من الشرق والغرب; ليتعارفوا، ولينزع كلّ قوم من التجارات من بلد الى بلد، ولينتفع بذلك المكاري والجمّال، ولتعرف آثار رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وتعرف أخباره، ويذكر ولاينسى، ولو كان كلّ قوم إنّما يتكلون على بلادهم وما فيها هلكوا، وخربت البلاد، وسقطت الجلب والارباح وعميت الاخبار، ولم تقفوا على ذلك، فذلك علّة الحجّ1 .
 


1-  الحج والعمرة ومعرفة الحرمين / الشيخ علي الافتخاري الگلپايگاني.